التربية الطبيعية كما هي: للدين والعادة.
وإنما انفردت آدابُ القرآن الكريم في ذلك الجيل الذي عرفتَ من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحياً يوحى إلى كل من يفهمه ويقفَ عنده متثبتاً
بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذِ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من المسافة المعنى لدقة النظم وإبراع التركيب، إلى ما يبهر الفكرَ ويملأ الصدر عجباً؛
وهذا تفسير ما جاء في الأثر من أن " من قرأه فقد استدرَجَ النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه،.
وذلك - أي ما وصفناه من شُبه الوحي - ظاهرُ التحقيق فيمن تدبر القرآن من أهل الذوق في اللغة
والبصر بأسرارها والمعرفة بوجوه الخطاب والحُنكة في سياسة المنطق، فكيف به في قوم كالمضرية من هذه العرباء: تَنبع اللغةُ من ألسنتهم، وتجري الفصاحة على ما أجرَؤها، وتنزل البلاغة على
حقوقها وعلى أماكن حظوظها من حُكمهم ورضاهم، وهم بعد ذلك منَ هم في تصريف القول
والافتنان فيه، وسعة الحيلة في التأني لإبرازه واجتماعه على الغاية، حتى تعودَ الجملةُ الطويلة لفظاً
واحداً، والمعنى البعيدُ لحظاً قريباً وحتى تصير حروفهم كنبض البرق في اشتماله ما بين أقطار السموات، على أنه إشارة ودون الإشارة؛ ثم كيف بذلك في قوم كأولئك العرب وهم كانوا من حِس
الفطرة بحيث يفسخ البيانُ عَقدَ طباعهم، وَينُض قواهم المبرَمَة، ويَرْخِي معاقِدَهم الوثيقة؛ بل كيف
به يومئذ، وقد كانوا يأخذونه عن لسان أفصح خلق الله منطقاً، وأصحهم أداة، وأجملهم إيماء،
وأبدعهم في الإشارة، وأبينهم في العبارة. وهو - ﷺ - كان بينهم مظهرَ خطابِ الله لأولي الألباب،
وتفسير كل ما في القرآن من الأخلاق والآداب.
بذلك استطاع القرآن أن يؤلف من العرب - وكانوا بشراً لا نظام لهم - أكبرَ جماعةٍ نفسية عرفها تاريخ الأرض وفي تاريخها على حساب ذلك في روعته وغرابته وقوته وفائدته، إذ وَجَدَت
من آداب القرآن قلباً اجتماعياً عاماً استولى على ما فيها من التصور والفكر والإدراك والاعتقاد،
وأحالها كلها فكراً واحداً يستمد قوته من الخُلُق الذي قام به لا من العقل الذي ينشأ عنه؛ وليس يخفى أن العقل هو مظهرُ تاريخ الأمة، ولكن الخلُق دائماً لا يكون إلا مصدر هذا التاريخ، فلا
جَرَمَ لم يثبت تاريخ أمة من الأمم إذ لم يكن قائماً على هذا الأصل المستحكم وكانت الأمة غير ذات أخلاق.
وإنما صح هذا لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ التي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها، والخلق هو بطبيعته مادة هذا
النسيج في الأمة كلها، لأنه وحده الذي يحقق الشبهَ بين طبقات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة وفي الأمة حقيقة الفرد.