(٢) استقلال الرأي وحريته، ويكون منه (النهي عن المنكر) ولا يمكن أن يكون بغيره.
(٣) استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون
الإيمان إيماناً على الحقيقة بدونه ثم هذا الإيمان هو الذي يسند الركنين المذكورين آنفاً ويشذهما
ويقيم وزنهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها
شيء من عوارض الاجتماع التي تعتري الناسَ من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق،
والخلابة والمؤاربة، وإيثار العاجِلةِ. ونحوها مما ينقُم الناسُ بعضهم من بعض. وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدها عما هي بسبيله.
فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله
ولا تتفق مع صحة الإيمان، بل هي أنواع من العبادة للقوي والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك. ومتى كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير راجعين إلى الإيمان
بالله دخلاً في الأهواء الإنسانية، فتجيء بها علة وتذهب بها علة، فيعود أمر الإنسانية إلى التأكل والمهارشة والنزاع الحيواني فإن الحيوان في كل ما يسطو به إنما يامر بمعروف هو معروفه وحده
وينهى عن منكر هو منكره وحده...
فانظر. هل جاءت علوم الفلسفة والاجتماع بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن بما ينقضُ هذه الحقيقة؛ وهل قررت إلا تفسيرها بوجوه ضعيفة مضطربة لا تبلغ في الكمال مبلغَها ولا
تقاربُ هذا المبلغ؛ وهل في الآداب الإنسانية التي قامت عليها الأمم لهذا العهد مثل أن تكون سعادة الإنسان في منفعة الناس، وإن احتمل في ذلك المكروه واقتحم الصًعاب وبَذَلَ من ذات
نفسه وحفظ من حق غيره ما يضئعه ولو ضاع هو فيه، وذكر من واجبه ما ينساه ولو كان ذلك مما
يفقِده وينسيه، ثم لا يكون هذا حتى يكون مقدماً على سعادة نفسه التي هي الإيمان، تقدم السبب
على المسبب: كما يؤكد ذلك نسق النظم في الآية الشريفة التي مرَّت بك..
اللهم إنه دينُكَ الذي شَرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنسانية الذي قلت فيه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٠).
تلك جملة من القول في الخُلق والعقل؛ فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يغْن عنهم من الخلق شيئاً، بل كان لهم ما تم للدولة الرومانية في عصر الامبراطرة الأول، الذي ترجع إليه أسباب
المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذا امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معاً إذ كان لها يومئذ من ضعف الخلق أكثر مما كان لها من قوة
العقل، والبناء إذا فهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو، غير أن علوه لا يكون من بعد إلا سبباً في سقوطه!


الصفحة التالية
Icon