ثوابها، ولا يشكون أنهم يستفتحون يوم القيامة بابَها، على أنهم
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٩).
ذلك وجه الإعجاز الأدبي في القرآن، وهو متصل باللغة اتصالاً سببياً كما رأيتَ؛ ثم هو
وراء الجنسية العربية التي بسطنا القولَ فيها؛ لأنه تحقيق تلك العصبية الروحية، أما حقيقة
الإعجاز مما يتعلق بجال الآداب نفسها وكونها آدابَ الفطرة المحضة التي تماد الزمن لأنها من الإنسانية، ولأنها فَصل ما بين الإنسان في حيوانيته وبين هذا الحيوان الناطق في إنسانيته؛ فالقرآن
كله برهان هذه الحقيقة، ونحنُ ملمون بها إلماماً على ما بنا من الضعف، وعلى ما بها من القوة
وعلى أنه ينبغي أن تكون الإفاضة فيها غرضَ كتاب برأسه في بيان ما هي الجهات المتقابلةُ في
علوم التربية والاجتماع وفلسفة الشرائع، فإن هذه العلوم بما انتهت إليه وعلى جملتها وتفصيلها
ليست إلا شروحاً مبسوطة للمبادئ القليلة التي هي ملاكُ الآداب، والتي حصرها القرآن حصراً محكماً.
وجاء بها على سَردها وجهاتها، كما يتبين ذلك من يقرؤه قراءةَ بحث وتأمل؛ ومن زَعم أن هذه الآداب علم أو هي تكون علماً فلا يقصر سبيلَ الحجة إليه طولُ الخصومة في زعمه مهما أطلنا؛ فإن أصل الأمر في الآداب حالة النفس لا حالة العقل؛ وكم رأينا في أجهل الناس من
سلامة النفس ورحْب الذرع وإخلاص الطويةِ وصدقِ اللسان والقلب وضروب من الآداب كثيرة
ما لم نر بعضَه ولا الخالصَ من بعضه في العلماء عامتهم أو أكثرهم؛ وإنَّما (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣).
وقِوام الإنساية في رأينا بثلاث، هي جملة ما ترمي إليه آدابُ القرآن:
الأولى: تعيين النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلةً فاصلاً طبيعياً بين فردٍ وفردٍ، وبين أُمة وأُخرى، فتقسم هذا الجنس أنواعاً متباينة بطبيعتها، ثم ينشق النوع إلى أجناس، ثم كل جنس
بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظامُ الاجتماع في القبائل والشعوب، فإذا الأرض بعد ذلك غير الأرض، وإذا الإنسانُ مع تقادم
الدهر غير الإنسان، وإذا طبيعة ليس فيها لتنازع البقاء غير معنى واحد معكوس، وهو بقاء التنازع...
الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانية فيما يُبتلى به الإنسان من الخير والشر فتنة، حتى لا يَحيف القوي ولا يَستيئسَ الضعيف، ولتنصرف رغائب الأمم على تباينها في السياسة إلى جهة من هذه النسبة المعينة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إليها من الهزَاهزِ، كالحروب
ونحوها، إلا عملاً إنسانياً يُبتَغى به دفعُ اعتداء وإقرارُ حق ورد باطل وتقويم زيغ، إلى أمثالها مما


الصفحة التالية
Icon