وفكره لا بظنه ولا بعادته؛ وبذلك يكون بناؤه الإنساني قاراً في حيزه الإنساني.
وأنه ليستحيل ألبتة أن لا يكون لأجهل الناس في قومه فكر اجتماعي ما دام له يقين ثابت في آداب المجموع.
هذا، وقد أمسكنا عن التفصيل والشرح وانتزاع الأمثلة القرآنية في كل ما تقدم، تَفادياً الإطالة واقتصاراً على غرض الكتاب، مما يُجزِئُ قليله في الدلالة على كثيره، فإن الدلالة على
الكثير وإن لم تكن هي إياه غير أنها تعينه وتصفه، ومن ضَرَبَ بالحدود على فضاء واسع في الأرض فقد أظهره حتى لا يخطئ النظرُ الهينُ أن يُطبقه وَيستوعبه، وإن كان فيما وراء ذلك
تعرفه وقياسه واستخراج مبلغ ذزعه ما يبلغ العنت؛ ما ليس في العنت أبلغُ منه.
وبالجملة فإن القرآن إنما يريد بآدابه وعِظاته الإنسانَ الاجتماعي لا الصورة الإنسانية التي تخلقها العصورُ التاريخية والسياسية أصنافاً من الخَلقِ، أو تفتري عليها ضروباً من الافتراء، فلا
يريد كلّ ما فيه من الآداب الاجتماعية على هذه الجهة لا يَعدُوها، وليس فيه من آية من الأداء والأخلاق إلا هو يريغَ بها ناحية من هذا المقصد، ومن أجل ذلك بقيت روح آدابه في أنفس
المسلمين لا تغيير في الجملة وإن تغيروا لها وانصرفوا عنها، كأنها فيهم طبيعة وراثية، ولقد كانت هذه الروح - ولم تزل - هي السبب الأكبر في انتشار الإسلام حتى بين أعدائه الذين أرادا
استئصاله، كالتتار والمغول وغيرهم ممن اشتدوا عليه ليخذلوه، ثم كانوا بعد ذلك من أشد أهله في
نصرته والغضب له والدفع دونه، وهو الإسلامُ لا دعوة له من أول تاريخه إلى هذه الغاية، وإلى ما
شاء الله، إلا القدرةُ التي هي مظهر آدابه أو روحُ هذه الآداب؛ فحيثما وُجدَت طائفة من أهله
وجدت الدعوة إليه، وإن لم ينتحلوها ويعملوا لها من عملهم، وإن لم يَتسخر هو من ورائهم
الدعاة المنتخبين ولم يستحثهم للجَولة بالعطايا والمنالات، ولم يقتطعهم من الدنيا ليترامى بهم إلى
غرضه في كل شرق، وتلك دلالة صريحة على أنه الدينُ الطبيعي للإنسانية، إذ تأخذ فيه النفسُ حق
النفس بلا وساطة ولا حيلة في التوسط... وهي حقيقة زمنية لم يزل كل عصر يأتي الناس بدليلها، ولم يستطع أعداء الإسلام أن يكابروا فيها فكابروا في تعليلها!
وبعدُ فما أفصح وأبلغ، وما أصح وأوضحَ ما ورد في صفة القرآن من قول رسول الله - ﷺ -
" فيه نَبأ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصلُ ليس بالهزل ".
ونحن فما عدَونا في كل ما قدمناه تفسيرَ هذه الكلمات القليلة، وإن فيها بعد لفضلاً فاضلاً، لو وجد فاصلاً، وقولاً طائلاً، وأصاب له قائلاً.


الصفحة التالية
Icon