" وتلمحت طائفة ما فيه من قِصَصِ القرون السالفة، والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا أخبارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا وأولَ الأشياء؛ وسموا ذلك بالتاريخ والقَصَصِ.
" وتنبه آخرون لما فيه من الحِكم والأمثال والمواعظ التي تُقلْقل قلوبَ الرجال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب والعقاب
والجنةِ والنار - فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر، فسموا بذلك الخطباء والوعاظ.
" وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك - علمَ الفرائض،
واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حساب الفرائض.
" ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحِكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والبروج غير ذلك، فاستخرجوا منه علم المواقيت.
" ونظر الكتابُ والشعراءُ إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسنِ السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز، وغير ذلك،
واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع".
انتهى تحصيلاً.
وإنَّما أوردنا هذا القول لنكشفَ لك عن معنى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزل في البادية على نبي أمِّي وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتُهم وقلوبهم، وكانت فنونُ القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروباً من الصفات، وأنواعاً من الحكم، وطائفة
من الأخبار والأنساب، وقليلاً مما يجري هذا المجرى، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتن بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريد به من ذلك، بل حملوه
على ظاهره وأخذوا منه حُكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مَقنَع، وما درى عربي واحد من أولئك لِمَ جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنونَ المتعددة، التي يهيجُ بعضُها
النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكن بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء،