السبب الأقوى في تحجر الطين وانقلابه وكسر سَؤرَة الحرارة وإحياء النبات والحيوان اللذين هما الغذاء الكائنة عنه النطَفُ، وهذا الماء هو المرتبة الأولى والطور الأول، وقوله (مِنْ سُلَالَةٍ) يشير
إلى أن المواليد كلها أصول للإنسان وأنه المقصود بالذات الجامع لطباعها، ثم جعله نطقة بالإنضاج والتلخيص الصادر عن القوى المعدة لذلك، ففي قوله
(ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً) تحقيق لما صار إليه الماء من خلع الصور البعيدة؛ والضمير إما للماء حقيقة أو للإنسان بالمجاز الأولى.
وقوله (فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) يعني الرحم، وهذا هو الطور الثاني، ثم قال مشيراً إلى الطور الثالث: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي صيرناها وإً قابلاً للتمدد والتخلق باللزوجة والتماسك،
ولما كان بين هذه المراتب من المهلة والبعد ما سنقرره، عطفهاب (ثم) المقتضية للمهلة - كما بيَّن أدوار كواكبها، فإن زُحَل يلي أيام السلالة المائية لبردها، والمشتري يلي النطفة لرطوبتها، والمريخ يلي العَلقة لحرارتها وهذه الثلاثة هي أصحاب الأدوار الطوال.
ثم شرع في المراتب القريبة التحويل والانقلاب التي يليها الكواكب المتقاربة في الدورة وهي ثلاثة: (أحدها) ما أشار إليه بقوله (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي حوَّلنا الدم جسماً صلباً قابلاً للتفصيل والتخليط والتصوير والحفظ وجعل مرتبة المضغة في الوسط، وقبلها ثلاث حالات
وبعدها كذلك. لأنها الواسطة بين الرطوبة السيالة والجسم الحافظ للصور؛ وقابلها بالشمس،
لأنها بين العلوي والسفلي كذلك، وجعل التي قبلها علوية، لأن الطور الإنساني فيها لا حركة له ولا اختيار، فكأنه هو المُتوَليه أصالة لمان كان في الحالات كلها كذلك لكن هو أظهر، فانظر إلى
دقائق مَطاوي هذا الكتاب المعجز وتحويله العلقة إلى المضغة يقع في دون الأسبوع.
(وثانيها) مرتبة العظام المشار إليها بقوله: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) أي صَلَّبنا تلك الأجسام بالحرارة الإلهية حتى اشتدت وقبلت التوثيق والربط والإحكام والضبط، وهذه مرتبة الزهرة، وفيها تتخلق الأعضاء المنوية المشاكلة للعظام أيضاً ويتحول دم الحيض غاذِياً كما هو شأن


الصفحة التالية
Icon