ولما لم يقع منهم ما أوجبت الحال رجاءه، تسبب عنه الإنكار عليهم، فقال معبراً بأداة التخصيص ليفيد مع النفي أنهم ما كان لهم عذر في ترك التضرع :﴿فلولا﴾ أي فهلا ﴿إذ جاءهم بأسنا تضرعوا﴾ ولما كان معنى الإنكار أنهم ما تضرعوا قال :﴿ولكن قست قلوبهم﴾ أي فلم يذكروا ربهم أصلاً ﴿وزين لهم الشيطان﴾ أي بما دخل عليهم به من باب الشهوات ﴿ما كانوا يعملون *﴾ من العظائم والمناكر التي أوجبها النكس بالرد أسفل سافلين ﴿فلما نسوا ما ذكروا به﴾ أي فتسبب - عن تركهم التذكير والأخذ بفائدته التي هي التخشع والتسكن، كما هو اللائق بهم لا سيما في تلك الحالة - أنا ﴿فتحنا﴾ أي بما يليق بعظمتنا ﴿عليهم أبواب كل شيء﴾ أي من الخيرات والأرزاق والملاّد التي كانت مغلقة عنهم ونقلناهم من الشدة إلى الرخاء، وذلك استدراجاً لهم، ومددنا زمانه وطوّلنا أيامه ﴿حتى إذا فرحوا﴾ أي تناهى بهم الفرح ﴿بما أوتوا﴾ أي معرضين عمن آتاهم هذا الرخاء بعد أن كان ابتلاهم بذلك، فعلم أنهم في غاية من الغباوة، لا يرتدعون بالتأديب بسياط البلاء، ولا ينتفعون ببساط المنة والرخاء، بل ظنوا أن البلاء عادة الزمان، والرخاء باستحقاقهم الامتنان، فعلم أن قلوبهم لا يرجى لها انتباه بحار ولا
٦٣٦
بارد ولا رطب ولا يابس ﴿أخذناهم﴾ بعظمتنا، وإنما أخذناهم في حال الرخاء ليكون أشد لتحسرهم ﴿بغتة﴾ فلم نمكنهم من التضرع عند خفوق الأمر، ولا أمهلناهم أصلاً بل نزل عليهم من أثقال العذاب، وأباح بهم من أحمال الشدائد وصروف البلايا ما أذهلهم وشغلهم عن كل شيء حتى بهتوا ﴿فإذا هم مبلسون *﴾ أي تسبب عن ذلك البغت أن فاجؤوا السكوتَ على ما في أنفسهم واليأس تحسراً وتحيراً، واستمروا بعد أن سكتوا إلى أن همدوا وخفتوا، ففي نفي التضرع عن المتقدمين بعد أن أثبته لمشركي هذه الأمة استعطاف لطيف، وفي ذكر استدراج أولئك بالنعم عند نسيان ما ذكروا به إلى ما أخذهم بغتة من قواصم النقم غاية التحذير.


الصفحة التالية
Icon