ولما كان ذكر البين في شيء يدل على قربه في الجملة وحضوره ولو في الذهن، لأنه يقال : بيني وبين كذا كذا، وكان فلان بيننا، ونحو ذلك مما يدل على الحضور ؛ قال منبهاً على زوال ذلك حتى بالمرور بالبال والخطور في الذهن لشدة الاشتغال ﴿بينكم﴾ فأسند القطع المبالغ فيه إلى البين، وإذا انقطع البين تقطّع ما كان فيه من الأسباب التي كانت تسبب الاتصال، فلم يبق لأحد منهم اتصال بالآخر، لأن ما بينهما صار كالخندق بانقطاع نفس البين، فلا يتأتى معه الوصول، ها على قراءة الجماعة بالرفع، وهذا المثال معنى قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على الظرفية ؛ ولما رجع المعنى إلى تقطع الوصل، بين سبب ذلك، وهو زوال المستند الذي كانوا يستندون إليه فقال :﴿وضل عنكم﴾ أي ذهب وبطل ﴿ما كنتم تزعمون *﴾ أي من تلك الأباطيل كلها.
ولما ثبتت الوحدانية والنبوة والرسالة وتقاريع من تقاريعها، وانتهى الكلام هنا إلى ما تجلى به مقام العظمة، وانكشف له قناع الحكمة وتمثل نفوذ الكلمة، فتهيأ السامع لتأمله، وتفرع فهمه لتدبره ؛ قال دالاً عليه مشيراً غليه، معلماً أن ما مضى أنتجه وأظهره لا بد وأبرزه، مذكراً بآياته ﴿والذين يؤمنون بالآخرة﴾ وبمحاجة إبراهيم عليه السلام، مصرفاً ما مضى أول السورة من دلائل الوحدانية على أوجه أخرى، إعلاماً بأن دلائل الجلال تفوق عدد الرمال، وتنبيهاً على أن القصد بالذات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته :﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال، فهو قادر على كل ما يريد ﴿فالق الحب﴾ أي فاطره وشاقه عن الزروع والنبات، وعبر بذلك لأن الشيء قبل وجوده كان معدوماً، والعقل يتوهم ويتخيل من العدم ظلمة متصلة، فإذا خرج من العدم المحض والفناء الصرف فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك لعدم
٦٧٦


الصفحة التالية
Icon