فبين سبحانه وتعالى بهذا أنه كما يفعل الأفعال المتشابهه ـ مثل تصوير عيسى عليه الصلاة والسلام من غير نطفة ذكر، مع إظهار الخوارق على يديه لتبين الراسخ في الدين من غيره ـ كذلك يقول الأقوال المتشابهه، وأنه فعل في هذا الكتاب ما فعل في غيره من كتبه من تقسيم آياته إلى محكم ومتشابه ابتلاء لعباده ليبين فضل العلماء الراسخين الموقنين بأنه من عنده، وأن كل ما كان من عند الله سبحانه وتعالى فلا فيه في نفس الامر، لأن سبب الاختلاف والجهل أو العجز، وهو سبحانه وتعالى متعال جده ومنزه قدره عن شيء من ذلك، فبين فضلهم بأنهم يؤمنون به، ولا يزالون يستنصرون منه سبكانه وتعالى فتح المنغلق وبيان المشكل حتى يفتحه عليهم بما يرده إلى المحكم، وهذا على وجه يشير إلى الذي تاه فيه النصارى، والتيه الذي ضلوا فيه عن المنهج، واللج الذي أغرق جماعاتهم، وهو المتشابه الذي منه أنهم زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يقول له القائل : يا رب! افعل لي كذا ـ ويسجد له، فيقره على ذلك ويجيب سؤاله، فدل ذلك على أنه إله، ومنه إطلاقه على الله سبحانه وتعالى أباً وعلى نفسه أنه ابنه، فابتغوا الفتنه فيه واعتقدوا الأبوة والنبوة على حقيقتهما ولم يردوا ذلك إلى المحكم الذي قاله لهم فأكثر منه، كما أخبر عنه أصدق القائلين سبحانه وتعالى في الكتاب المتواتر الذي حفظه من التحريف والتبديل :﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ [فصلت : ٤٢]، وهو ﴿إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً﴾ [مريم : ٣٠، ٣١] ﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ [المائدة : ١١٧] ﴿إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم﴾ [مريم : ٥١]، هذا مما ورد في كتابنا الذي لم يغيروا ما عندهم فإن كانوا قد بدلوه فقد ـ ولله الحمد ـ منه في الأناجيل الأربعة التي بين أظهرهم الآن في أواخر هذا القرن التاسع من