ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره، فقال تحقيقاً لذلك، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب :﴿قد خسر﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال :﴿الذين كذبوا بلقاء الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم ﴿حتى إذا جاءتهم الساعة﴾ أي الحقيقة، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته، وحذرهم منها بقوله :﴿بغتة﴾ أي باغتة، أو ذات بغتة، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي تجيء فيه نوعاً من الشعور ﴿قالوا يا حسرتنا﴾ أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام! فإنه لا نديم لنا سواك، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه، لينتهي الإنسان عن أسبابها ﴿على ما فرطنا﴾ أي قصرنا ﴿فيها﴾ أي بسبب الساعة، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا، فأعرضوا عما دعوا إليه من تركية النفس، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء، فلا رأس مال ولا ربح، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة، ولا خسران أعظم من هذا.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٦٢٥


الصفحة التالية
Icon