ولما استجمع التعريف بالأوصاف الموجبة للفلاح المذكورة أول السورة المستدل عليها بكل برهان منير وسلطان مبين، فصار بحيث لا يتوقف عن اجتناء ثمرته من وقف على حقائق تلك النعوت، شوق إلى تلك الثمرة بعد تفصيل ما في أول البقرة في التي قبلها كما مضى بما يحث عليه ويقبل بقلب كل عاقل إليه فقال :﴿لتخرج الناس﴾ أي عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم به وإن كانوا ذوي اضطراب ﴿من الظلمات﴾ التي هي أنواع كثيرة من الضلالات التي أدت إليها الجهالات ﴿إلى النور﴾ الذي هو واحد، وهو سبيل الله المدعو بالهداية إليه في الفاتحة، أو لتبين للعرب قومك لأنه بلسانهم بياناً شافياً، فتجعلهم - بما تقيم عليهم من الحجج الساطعة، وتوضح لهم من البراهين القاطعة، وتنصب لهم من الأعلام الظاهرة، وتحكم لهم من الأدلة الباهرة - في مثل ضوء النهار بما فتح من مقفل أبصارهم، وكشف عن أغطية قوبهم، فيكونوا متمكنين من أن يخرجوا من ظلمات الكفر التي هي طرق الشيطان إلى نور الإيمان الذي هو سبيله ﴿ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ [الأنعام : ١٥٣] وشبه الإيمان وما أرشد إليه بالنور، لأنه عصمة العقل من الخطأ في الطريق إلى الله كما أن النور عصمة البصر من الضلال عن الطريق الحسي، وإذا خرجوا إلى النور كانوا جديرين بأن يخرجوا جميع الناس ﴿بإذن ربهم﴾ أي المحسن إليهم ؛ والإذن : الإطلاق في الفعل بقول يسمع بالأذن، هذا أصله - قاله الرماني.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦٥
ولما كان النور مجملاً، بينه على سبيل الاستئناف أو البدل بتكرير العامل فقال :﴿إلى صراط العزيز﴾ الذي تعالى عن صفات النقص فعز عن أن يدخل أحد صراطه الذي هو ربه، أو يتعرض أحد إلى سالكه بغير إذنه ﴿الحميد﴾ المحيط بجميع الكمال، فهو المستحق لجميع المحامد لذاته وبما يفيض على عباده من النعم التي يربيهم ويتحمد إليهم بها على كل حال، فكيف إذا سلكوا سبيله الواضح الواسع السهل!.


الصفحة التالية
Icon