ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل : هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له ؟ فقيل : بل استمروا على عنادهم، فقال - مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة أبراهيم في قوله ﴿الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾ [ إبراهيم : ٣] من المانع لهم عن الإذعان - :﴿ذرهم﴾ يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم ﴿يأكلوا ويتمتعوا﴾ والتمتع : التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال ﴿ويلههم﴾ أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة ﴿الأمل﴾ أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيئ لذلك ولما كان هذا امراً لا يشتغل به إلا الأحمقن سبب عنه التهديد بقوله :﴿فسوف يعلمون*﴾ أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة إبراهيم من لدن قوله سبحانه ﴿ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون﴾ [إبراهيم : ٤٢] إلى خاتمتها، أعقب ذلك بقوله :﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾ أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد ﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون﴾ ثم أعقب تعالى : هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم زوا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه،
٢٠٤