ويتحدث به بعدنا الأجيال، ويعتبر به ذوو الألباب، ثم قبضت على ابنها بيدها الواحدي وأخذت الحديدة بالأخرى وهي كالمجنونة، وحولت وجهها عنه لئلا تراه وضربته بالحديدة فمات، ثم أخذت منه وشوته وأكلته، فلما شم الخوارج ريح ذلك اللحم هجموا عليها فقالوا لها : من أين لك هذا اللحم ؟ ولم استأثرت به علينا ؟ فقال : ما كنت بالتي أوثر نفسي عليكم فاجلسوا، فجاءت بالمائدة وأخرت ما بقي من جسم ابنها وقالت : هذا ولدي وأعز الناس عندي قتلته بيدي لإفراط الجوع وأكلت من لحمه، وهذا بقية جسمه عزلتها لكم، فكلوا واشعبوا ولا تكونوا أشد رحمة لولدي مني، ولا تضعف قلوبكم عن ذلك فإنه قبيح لشجعان مثلكم أن تكون امرأة أقوى قلباً منكم، وأنتم أحق بأن ترضوا بهذا مني، لأنكم الذي سببتم علينا البلاء حتى بلغنا هذا المبلغ، ثم رفعت صوتها تبكي وتنتحب وتنوح على ابنها، فملا رأوا ذلك هالهم وخرجوا مذعورين واشتهر خبرهان فقلق الناس قلقاً شديداً، وتحققوا صحة الوعيد الذي سبق من الله، وانكسر الخوارج لذلك واستعظموه وأطلقوا للناس الخروج، فخرج في ذلك الوقت خلق كثير.
فلما اتصل ذلك بطيطوس استعظمه واشتد خوفه من الله تعالى، فرفع يده إلى السماء وقال : اللهم! أنت العالم بالخفيات والمطلع على السرائر والنيات، أنت تعلم أني لم أجئ إلى هذه المدينة لأسيء إلى أهلها ولقد ساءني أمر هذه المرأة فلا تؤاخذني به، وطالب هؤلاء الخوارج وانتقم منهم، وظفرني بهم ولا تمهلهم.
وأمر بالإحسان إلى من خرج إليه من اليهود، فكان كثير منهم لا يقدرون على فتح أفواههم، وكثير منهم مات لما أكل الطعام، وكان الصبيان وغيرهم يختطفون الخبز إذا نظروه وينهشونه بلا عقل، فغذا أكلوا ماتوا، فقال طيطوس ليوسف بن كريون : ما الحيلة في هؤلاء حتى لا يموتوا ؟ فقال : ينبغي أن يسقوا اللبن والحساء الرقيق أياماً حتى تلين أمعاؤهم، ثم الطعام بعد ذلك، ففعل ذلك فسلم منهم جماعة.