ثم مضى جماعة منهم ليلاً، فصعدوا من تلك الثلمة ودخلوا إلى المدينة فكبروا، فانتبه اليهود وكانوا قد ناموا لطول تعبهم وضرهم، ولزم كل منهم مكانه، ومضى طيطوس إلى أصحابه فوقف عند السور إلى أن أصبحوا، فانهزم اليهود إلى القدس وتبعهم الروم فاقتتلوا في الصحن البراني، ولم يكن إلا السيوف لضيق الموضع، فكان بينهما قتال لم يكن فيما مضى لاستقبال الجميع، لأنهم حصلوا في موضع لا مطمع فيه بالسلامة إلا بالصدق في القتال، وكان الكل رجالة، فعظمت الحرب بينهم وعلت أصواتهم وضجيجهم حتى سمعت من البعد، وكثرت القتلى في الفريقين واستظهر اليهود آخراً وأخرجوا الروم قرب ربع النهار، وأمر طيطوس بهدم سور مضوع متصل بالقدس يسمى أنطونيا ليتسع المجال لأصحابه، فلما هدم ذلك انثلم سور القدس وسهلت الطريق إليه، فبادر اليهود وبنوه وأدخلوه في جملة القدس فصار مربعاً، فكان ذلك تصديق ما رأوه قبل ذلك مكتوباً على الحجر القديم المقدم ذكره " إذا كمل بنيان القدس فصار مربعاً فعند ذلك يخرب بيت المقدس " وكان اليهود نسوا ذلك، فلما رأوه تذكروا وعلموا أن المدة قد تمت وأنه سيخرب.
وكان يوم هذه الحرب العظيمة عيد العنصرة، فقرب طيطوس من القدس وكلمهم
٣٦٠
ورغبهم في السمالمة ليتمكنوا من العبادة في هذا العيد، ووعدهم بالإحسان إليهم وقال : قد علمتم أن ملككم بحنيا لما حاضره بختنصر ملك بابل وخرج غليه مستأنفاً، انتفع بذلك ونفع قومه وبلده فسلموا، وأن صدقيا الملك لما لج في محاربة بختنصر ولم يسالمه كما أمرته الأنبياء، أهلك المدينة والأمة وأساء إلى نفسه وإليهم، فسبيلكم أن تعبروا بهما وتهتدوا بأصوبهما فعلاً وأحمدهما عاقبة، فاقبلوا نصيحتي، واكتفوا بما جرى، ووعدهم أن يعفو عن جميع ما تقدم ويحسن إليهم - وأطال الكلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٧