ولما ذكر العبث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه، أتبعه - بما له من الفضل - بابتداء الخلق الذي هو دليله، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم، فكان فعلهم فعله سواء، فكان قدوتهم وهو عدوهم، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به، فقال تعالى عاطفاً على ﴿واضرب﴾ :﴿وإذ﴾ أي واذكر لهم إذ ﴿قلنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿للملائكة﴾ الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم، قال ابن كثير : وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة ﴿اسجدوا لآدم﴾ أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها ﴿فسجدوا﴾ كلهم ﴿إلا إبليس﴾ فكأنه قيل : ما له لم يسجد ؟ فقيل :﴿كان﴾ أي لأنه كان ﴿من الجن﴾ المخلوقين من نار، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور، مع ما كان غلب عليه من العبادة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :"خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان-" وفي رواية :"إبليس - من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة.
٤٧٥
ولما كان أكثر الجن مفسداً، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها، المفسدة له، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى :﴿ففسق﴾ أي خرج، يقال : فسقت الفأرة من حجرها - إذا خرجت للعيث والفساد.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٣