ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال :﴿إنه كان بي﴾ أي في جميع أحوالي ﴿حفيّاً *﴾ أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال :﴿وأعتزلكم﴾ أي جميعاً بترك بلادكم ؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله :﴿وما تدعون﴾ أي تعبدون ﴿من دون الله﴾ الذي له الكمال كله، فمن أقبل عليه وحده أصاب، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ﴿وأدعوا﴾ أي أعبد ﴿ربي﴾ وحده لا ستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه :﴿عسى ألاّ أكون﴾ أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء ﴿بدعاء ربي﴾ المتفرد بالإحسان إلي ﴿شقياً *﴾ كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم.
ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله :
وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
٥٣٨


الصفحة التالية
Icon