ولما كانا يلتقيان ولا يختلطان، كان كل منهما بالاختلاط في صورة الباغي على الآخر، فأتم سبحانه تقرير النعمة في منعهما الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ، تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ، ليكون الكلام - مع أنه خبر - محتملاً للتعوذ، فيكون من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة فقال :﴿وحجراً﴾ أي منعاً ﴿محجوراً*﴾ أي ممنوعاً من أن يقبل رفعاً، كل هذا التأكيد إشارة إلى جلالة هذه الآية وإن كانت قد صارت لشدة الإلف بها معرضاً عنها إلى الغاية، لتعرف بها قدرته، وتشكر نعمته.
ولما ذكر تعالى قدرته في منع الماء من الاختلاط، أتبعه القدرة على خلطه، لئلا يظن أنه ممتنع، تقريراً للفعل بالاختيار، وإبطالاً للقول بالطبائع، فقال معبراً بالضمير كما تقدمه حثاً على استحضار الأفعال والصفات التي تقدمت، لتعرف الحيثية التي كرر الضمير لأجلها :﴿وهو﴾ أي وحده ﴿الذي خلق من الماء﴾ بخلطه مع الطين ﴿بشراً﴾ كما تشاهدونه يخلق منه نباتاً وشجراً وورقاً وثمراً ﴿فجعله﴾ أى بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة، والتدوير في أدوار التربية ﴿نسباً﴾ أي ذكراً ينسب إليه ﴿وصهراً﴾ أي أنثى
٣٢٨
يصاهر - أي يخالط بها إلى الذكر، فقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين : عذبا وملحاً، وخلط ماء الذكر بماء الأنثى متى أراد فصور منه آدمياً، ومنعه من ذلك إذا أراد، كما أنه ميز بين العذب والملح ويخلط بينهما غذا أراد بعلمه الشامل وقدرته التامة ﴿وكان ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك ﴿قديراً*﴾ على كل شيء قدرته على ما ذكر من إبداع هذه الأمور المتباعدة من مادة واحدة فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق، سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مرير الأخلاق كثير الشقاق، أو ملتبس الأخلاق، عريقاً في النفاق، فارغب إلى هذا الرب الشامل القدرة، التام العلم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٢٧


الصفحة التالية
Icon