ولما ذكر حال النذير الذي ابتدأ به السرة في دعائه إلى الرحمن الذي لو لم يدع إلى عبادته إلا رحمانيته لكفى، فكيف بكل جمال وجلال، فأنكروه، اقتضى الحال
٣٣٢
أن يوصل به بإثبات ما هم عالمون به من آثار رحمانيته، ففصل ما أجمل بعد ذكر حال النذير، ثم من الملك، مصدراً له بوصف الحق الذي جعله مطلع السورة راداً لما تضمن إنكارهم من نفيه فقال :﴿تبارك﴾ أي ثبت ثباتاً لا نظير له ﴿الذي جعل في السماء﴾ التي قدم أنه اخترعها ﴿بروجاً﴾ وهي اثنا عشر برجاً، هي للكواكب السيارة كالمنازل لأهلها، سميت بذلك لظهورها، وبنى عليها أمر الأرض، دبر بها فصولها، وأحكم بها معايش أهلها.
ولما كانت البروج على ما تعهد لا تصلح إلا بالنور، ذكره معبراً بلفظ السراج فقال :﴿وجعل فيها﴾ أي البروج ﴿سراجاً﴾ أي شمساً، وقرأ حمزة والكسائي بصسغة الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك بحيث إنه أعظم من ألوف ألوف من السرج، فهو قائم مقام الوصف كما قال في الذي بعده :﴿وقمراً منيراً*﴾ أتم - بتنقلها فيها وبغير ذلك من أحوالهما - التدبير، أى انالعلم بوجوبه لا شك فيه، فكيف يشك عاقل في وجوده أو في رحمانيته بهذا العالم العظيم المتقن الصنع الظاهر فيه أمر الرحمانية.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٠
ولما ذكر الآيتين، ذكر ما هما آيتاه فقال :﴿وهو الذي جعل الليل﴾ أي الذي آيته القمر ﴿والنهار﴾ الذي آيته الشمس ﴿خلفة﴾ أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك، بضد ما له من الأوصاف، ويقوم مقامه في كثير من المرادات، والأشيا المقدرات، ويعلم قد التسامح فيها، ومن فاته شيء من هذا قضاه في ذاك ؛ قال ابن جرير : والعرب تقول : خلف والخلفة - بالكسر : المختلف.
فعلى هذا يكون التقدير : جعلهما مختلفين في النور والظلام، والحر والبرد، غير ذلك من الأحكام.
وقال الرازي في اللوامع : يقال : الأمر بينهم خلفة، أي نوبة، كل واحد يخلف صاحبه، والقوم خلفة، أي مختلفون.