ولما كان المقام لإنزال الآية القاهرة، قدم قوله :﴿العزيز﴾ أي القادر على كل من قسرهم على الإيمان والانتقام منهم ﴿الرحيم*﴾ في أنه لم يعاجلهم بالنقمة، بل أنزل عليهم الكتاب ترفقاً بهم، وبياناً لما يرضاه ليقيم به الحج على نم أريد للهوان، ويقبل بقلوب من يختصه منهم للإيمان، قال أبو حيان : والمعنى أنه عز في نقمته من الكفار، ورحم مؤمني كل أمة - انتهى.
ومن هنا شرع سبحانه وتعالى في تمثيلآخر الفرقان في إظهار القدرة بالبطش عندالنقمة حيث لم يشكر النعمة بأن أبى المدعو الإجابة لدعوه الرسل، وترك الداعي - عقب الانقياد من الشدائد - التضرع للمرسل، وقص أخبار الأمم على ما هي عليه بحيث لم يقدر أحد من أهل الكتاب الذين هم بين ظهرانيهم على إنكار شيء من ذلك، ومن ثم قرع أسماعهم، أول شيء بقصتهم من فرعون، وموسى عليه السلام، فصح قطعاً أن هذا الكتاب جلي الأمر، على القدر، ليس بكهانة، ولا شعر، كما سيؤكد ذلك عند إظهار النتيجة في آخرها، بل هو من عند رب العالمين، على لسان سيد المرسلين، وصح أن أكثر الخلق مع ذلك هالك وإن قام الدليل.
ووضح السبيل.
لأن سلك الذكر في قلوبهم شبيه في الضسق بنظم السهم فيما يرمى به، وصح أنه سبحانه يملي لهم وينعم عليهم بما فيه حياة أديانهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وما فيه حياة أبدانهم بالإيتاء من كل ما يحتاجونه إظهاراً لصفة الرحمة.
ثم ينتقم منهم بعد طول المهلة/ وتماديهم في سكرات الغفلة، كشفاً لصفة العزة، كل ذلك تسلية له ﷺ وتخفيفاً وإعلاماً بأنه لا قصور في بيانه، ولا تقصير لديه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٤٨
ولما اقتضى وصف العزة الإهلاك، وصصف الرحمة الإمهال، وكان الأول مقدماً، وكانت عادتهم تقديم ما هم به أهم، وهو لهم أعنى، خيفت غائلته، فأتبع ذلك أخبار هذه الأمم، دلالة على الوصفين معاً ترغيباً وترهيباً، ودلالة على أن الرحمة سبقت
٣٤٩