ولما كان التقدير : لم يروا شيئاً من ذلك آية ولاآمنوا، عطف عليه أو على قوله تعالى أول سورة ﴿فقد كذبوا﴾ الآية :﴿ولو نزلناه﴾ أي على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز بما لنا من العظمة ﴿على بعض الأعجمين*﴾ الذين لا يعرفون شيئاً من لسان العرب من البهائم أو الآدميين، جمع أعجم، وهو من لا يفصح وفي لسانه عجمة، والأعجمي مثله بزيادة تأكيد ياء النسبة ﴿فقرأه عليهم﴾ أى ذلك الذي نزلناه عليه على ما هو عليه من الفصاحة والإعجاز مع علمهم القطعي أنه لا يعرف شيئاً من اللسان ﴿ما كانوا به مؤمنين*﴾ أي راسخين ولتمحلوا لكفرهم عذراً في تسميته سحراً أو غير ذلك من تعنتهم ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهو مشركون﴾ من فرط عنادهم، وتهيئهم للشر واستعدادهم له، بل لا يسمعونه حق السماع، ولا يعونه حق الوعي، بل سماعاً وفهماً على غير وجهه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٩
ولما كان ذلك محل عجب، وكان ربما ظن له أن الأمر على غير حقيقته، قرر
٣٩٣
مضمونه وحققه بقوله :﴿كذلك﴾ أي مثل هذا السلكالعجيب - الذي هو سماع وفهم ظاهري - في صعوبة مدخله وضيق مدرجه.
ولما لم يكن السياق مقتضياً لما اقتضاه سياق الحجر من التأكيد، اكتفى بمجرد الحدوث فقال :﴿سلكناه﴾ أي كلامنا والحق الذي ارسلنا به رسلنا بما لنا من العظمة، في قلوبهم - هكذا كان الأصل، ولكنه علق الحكم بالوصفن وعم كل زمن وكل من اتصف به فقال :﴿في قلوب المجرمين*﴾ أي الذين طبعناهم على الإجرام، وهو القطيعة لما ينبغي وصله، كما ينظم السهم إذا رمي به، أو الرمح إذا طعن به في القلب، لا يتسع له، ولا ينشرح به، بل تراه ضيقاً حرجاً.
ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله :﴿لا يؤمنون به﴾ أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام ﴿حتى يروا العذاب الأليم*﴾ فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان.
ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد.


الصفحة التالية
Icon