ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لا يعلم أصلاً قال :﴿الحكيم*﴾ أي البالغ العلم، الواضع كل شيء يريده في أكمل مواضعه، فابطن نفسه بكبريائه وجلاله حتى لا باطن سواه، وأظهرها بأفعاله وما كشف من جماله حتى لا ظاهر في الحقيقة غيرهن وهو يغلب من شاء بعزته، ويمهله إن شاء بحكمته، فلا يغتر أحد بإمهاله فيظن أنه لإهماله.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥٦١
ولما فرغ من مثلهم ومما تتوقف صحته عليه، كان كأنه قيل على وجه التعظيم لهذا المثل : هذا مثلهم فعطف عليه قوله إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعليّ شأنها :﴿وتلك الأمثال﴾ أى العالية عن أن تنال بنوع احتيال ؛ ثم استأنف قوله :﴿نضربها﴾ بما لنا من العظمة، بياناً ﴿للناس﴾ تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات، لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها في طرق للإفهام إلى المعاني النحتجبة في الأستار، تبرزها وتكشف عنها وتصورها.
ولما كانوا يتهكمون بما رأوه من الأمثال مذكوراً به الذباب والبعوض ونحوهما قال مجملاً لهم :﴿وما يعقلها﴾ أي حق عقلها فينتفع بها ﴿إلا العالمون*﴾ أي الذين هيئوا للعلم وجعل لهم طبعاً بما بث في قلوبهم من أنواره، وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها ؛ روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله لعيه وسلم قال :"العالم الذي عقل عن اللخ فعمل بطاعته واجتن سخطه" قال البغوي : والمثل كلام شائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول.
ولما قدم أنه لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن أخذ، وصحح ذلك بالمشاهدة في القرون البائدة، وقربه إلى الأذهان بالمثل المستوي على غاية البيان، وختم ذلك أنه حجب فهمه عن أكثر خلقه، دل على ذلك كله بقوله مظهراً لقوته وسائر صفات كماله، بعد ما حقق أن أولياءهم في أنزل مراتب الضعف ﴿خلق الله﴾ أي الذي لا يداني في
٥٦٢