ولما أقام عليهم الدليلن أتبعه التهديد والتهويل، فقال عاطفاً على " أولم يتفكروا " ﴿أو لم يسيروا﴾ ولما أحاطت آثار المكذبين بمكة المشرفة شرقاً وغرباً، وجنوباً وشمالاً، بديار ثمود وقوم فرعون وعاد وسبأ وقوم ولوط، عرف وأطلق فقال :﴿في الأرض﴾ أي سير اعتبار وتأمل وادكار من أي جهة أرادوا، وفيه إشارة إلى أنهم واقفون عند النظر في ظاهر الملك بأبصارهم، قاصرون عن الاعتبار في باطن الملكوت بأفكارهم، وفيه هزٌّ لهم إلى امتطاء هذه الدرجة العلية، بهذه العبارة الجلية ﴿فينظروا﴾.
ولما كان ما حل بالماضيين أمراً عظيماً، نبه على عظمة بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال :﴿كيف كان﴾ أي كوناً لا قدرة على الانفكاك عنه، وتذكير العمل يشير إلى عظم الأمر ﴿عاقبة﴾ أي آخر أمر ﴿الذين﴾ ولا كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له، اثت الجار فقال :﴿من قبلهم﴾ في إهلاك العاصي وإنجاء الطائعن ولما كان علم العقبة مشروطاً بمعرفة البادئة قال مستأنفاً :﴿كانوا﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة.
ولما كان السياق للظهور والغلبة التي إنما مدارها على الشدة المقتضية للثبات، لا الكثرة العارية عنها، أعرض عنها وقال مسقطاً ضمير الفصل لأن هذا السياق لا يظهر فيه ادعاء العرب لعلوهم على فارس ولا الروم :﴿أشدَّ منهم﴾ أي من العرب ﴿قوة﴾ أي في أبدانهم وعقولهم، ولما كان التقدير : فنقبوا الجبال، وعلوا من متقن الصنائع التي ترونها من الأعمال ما لم يداينه أحد من الأجيال، عطف عليه قوله :﴿وأثاروا﴾ بالحرث وغيره ﴿الأرض﴾ فأخرجوا ما فيها من المنافع من المياه والمعادن والزروع وغير ذلك من المعادن ﴿وعمروها﴾ أي أؤلئك السالفون ﴿أكثر مما عمروها﴾ أى هؤلاء الذين
٦٠٤
ارسلت إليهم، بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر، فإن بلاد العرب إنما هي جبال سود وفيافي غبر، فما هو إلى تهكم بهم، وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها.