ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف، دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للتضجر والملال بقوله :﴿فقالوا﴾ على وجه الدعاء :﴿ربنا﴾ أي أيها المربي لنا ﴿باعد﴾ أي أعظم البعد وشدده - على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وهشام عن ابن عامر بتشديد العين وإسكان الدال، وهذا بمعنى قراءة الباقين غير يعقوب ﴿باعد﴾ المقتضية لمده وتطويله ﴿بين أسفارنا﴾ أي قرانا التي نسافر فيها، أي ليقل الناس فيكون ما يخص كل إنسان من هذه الجنان أضعاف ما يخصه الآن ونحمل الزاد ونسير على النجائب ونتعلق السلاح ونستجيد المراكب، وكان بعضهم كأن على الضد من غرض هؤلاء فاستكثر مسافة ما بين كل قريتين فقال كما قرأ الواردة على قانون الحكمة واشتهى أن تكون تلك القرى متواصلة ﴿وظلموا﴾ حيث عدوا النعمة نقمة، والإحسان إساءة ﴿أنفسهم﴾ تارة باستقلال الديار، وتارة باستقلال الثمار، فسبب ذلك تبديل ما هم فيه بحال هو في الوحشة بقدر ما كانوا فيه من الإنس وهو معنى ﴿فجعلناهم﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿احاديث﴾ أي يتواصفها الناس جيلاً بعد جيل لما لها من الهول ﴿ومزقناهم﴾ أي تمزيقاً يناسب العظمة، فما كان لهم دأب إلا المطاوعة فمزقوا ﴿كل ممزق﴾ أي تمزيق كما يمزق الثوب، بحيث صاروا مثلاً مضورباً إلى هذا الزمان، يقال لمن شئت أمرهم : تفرقوا أيدي سبا.
١٧٢


الصفحة التالية
Icon