ولما كانت النفس منقادة بل مترامية نحو الباطل، عبر في الضلال بالمجرد، وفي الهدى بالافتعال إشارة إلى أنه لا بد فيه من هاد وعلاج، وعبر بأداة الشك استعمالاً للأنصاف فقال :﴿وإن اهتديت فبما﴾ أي فاهتدائي إنما بما ﴿يُوحي إليَّ ربي﴾ أي المحسن إليّ لا بغيره، فلا يمكن فيه ضلال لأنه لا حظ فيه للنفس أصلاً، فلا يقدر أحد على شيء من طعن في شيء منه، وهداي لنفسي، فالآية ظاهرها التنزل منه وباطنها إرشادهم إلى تسديدهم النظر وتقمويمه وتهذيب الفكر وتثقيفه، وهي من الاحتباك : حذف أولاً كون الضلال من نفسه بما دل عليه ثانياً من أن الهدى بقوله :﴿إنَّه﴾ أي ربي ﴿سميع قريب*﴾ أي لا يغيب عنه شيء من حال من يكذب عليه، فهو جدير بأنه يفضحه كما فضحكم في جميع ما تدعونه ولا يبعد عليه شيء ليحتاج في إداركه إلى تأخير لقطع مسافة أو
١٩٥
نحوها، بل هو مدرك لكل ما أراد كلما أراد، والآية إرشاد من الله تعالى إلى أنه وإن كان خلق للآدمي عقلاً لا يضل ولا يزيغ، لكنه حفه بقواطع من الشهوات والحظوظ والكسل والفتور فلا يكاد يسلم منها إلا منها إلا من عمصه الله، فلما كان كذلك أنزل سبحانه كتباً هي العقل الخالص، وأرسل رسلاً جردهم من تلك القواطع، فجعل أخلاقهم شرائعهم، فعلى كل أحد أن يتبع رسله المتخلفين بكتبه متهماً عقله منابذاً رأيه كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ليكون مؤمناً بالغيب حق الإيمان فيدخل في قوله تعالى في سورة فاطر ﴿إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب﴾ [فاطر : ١٨] ولا يكون متناوشاً بعد كشف الغطاء من مكان بعيد.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٥


الصفحة التالية
Icon