ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال :﴿بالغيب﴾ أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع إلا الله، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك.
ولما كانت الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن، فكانت أشرف العبادات، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص،
٢١٥
قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة :﴿وأقاموا﴾ أي دليلاً على خشيتهم ﴿الصلاة﴾ في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن.
ولما كان التقدير : فمن كان على غير تدسى، ومن كان على هذا فقد تزكى، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه، عطف عليه قوله، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم.
﴿ومن تزكّى﴾ أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن.
ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال :﴿فإنما يتزكّى لنفسه﴾ فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها ﴿وإلى الله﴾ الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره ﴿المصير*﴾ كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك.