ولما كان التقدير : فانظروا وازدادوا حسرة أيها المجرمون، عطف عليه قوله :﴿وامتازوا﴾ أي انفردوا انفراداً هو بغاية القصد، وجرى على النمط الماضي من زيادة التهويل لذلك الموقف بإعادة قوله :﴿اليوم﴾ أي عن عبادي الصالحين أو عمن بقي منهم معكم في الموقف ليظهروا من أوضارهم، ويشفوا من مضارهم، لأن غيبة الرقيب أتم النعيم، وإبعاد العدو أعلى السرور، وحذف أداة النداء لا لقرب الكرامة بل للدلالة على أنهم في القبضة لا مانع من غاية التصرف فيهم لكل ما يراد لأنه لا حائل دونهم ﴿أيها المجرمون*﴾ أي العريقون في الإجرام، فلا يقع في أوهامكم أنكم تخالطونهم اليوم أصلاً، وهذا ما كنتم تمتازون عنهم في الدنيا وتقاطعونهم ترفعاً واستكباراً، فهذا قوله للمجرمين وذلك قوله للمؤمنين، فصح أنه قلب لأنه به صلاح بعض المكلفين وفساد الآخرين الذي هو تمام صلاح الأولين، وقد تقدم في أوائل سورة الروم منام ينفع استحضاره هنا.
ولما أمرهم بالامتياز أمراً إدراياً حكيماً، فامتازوا في الحال، وأسروا الندامة وسقط في أيديهم فعضوا الأنامل، وصروا بالأسنان، وشخصت منهم الأبصار، وكلحت
٢٧٢
الوجوه، وتقلصت الشفاه، ونكست الرؤوس وشحبت الألوان، وسحبوا على الوجوه، وكان من فنون المساءة وشؤون الحسرة ما تعجز عنه العقول، وتذوب من ذكر النفوس، وتنخلع القلوب، قال سبحانه موبخاً لهم في تلك الحال بهذا المقال معللاً حكمه عليهم بذلك بأنه لم يتركهم هملاً بل ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل على كماله ما هو كافٍ لهم في النجاة ثم ما وكلهم إلى ذلك، بل أرسل إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتباً :﴿ألم أعهد﴾ أي أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب، في بيان الطريق الموصل إلى النجاة، لافتاً القول عن مظهر الإحسان إلى ما هو أولى به من مظهر التكلم بالوحدة دفعاً للبس، ثم أشار إلى علوه وجلاله، وعظمه وسمو كماله فقال :﴿إليكم﴾.


الصفحة التالية
Icon