ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات، بالإصعاد في مدارج الكمالات، ومعارج الإقبال، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات، علل قوته بقوله مؤكداً :﴿إنه أواب*﴾ أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله.
ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه، وظهرت على يديه الخوارق، قال مستانفاً جواباً لمن سأل عم جزائه على ذلك الجهاد، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات :﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ﴿سخرنا الجبال﴾ أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل
٣٦٩
الأنف، ثم قيد بقوله :﴿معه﴾ أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير ظاهراً لأحد بعده ولا قبله، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد، عبر بالفعل المضارع، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله.
ولما كان في سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال :﴿بالعشي﴾ أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل.