ولما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله، وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته، وكان أعجبه خلقاً الإنسان بما له من قوة النطق، قال دالاً على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتاً القول إلى خطاب النوع كله إيذاناً بتأهلهم للخطاب، وترقيهم في عُلا الأسباب، من غير عطف إيذاناً بأن كلاًّ من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له :﴿خلقكم﴾ أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره ﴿من نفس واحدة﴾ هي آدم عليه السلام.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٤١٨
ولما كان إيجادنا منها بعد شق الأنثى منها، قال عاطفاً على ما تقديره : أوجدها من تراب، مبيناً بلفظ الجعل أن الذكر هو سببها ومادتها منبهاً بأداة التراخي على القهر الذي السياق له بالتراخي في الزمان بتأخير المسبب عن سببه المقتضي له إلى حين مشيئته لأن إيجادها منه كان بعد مدة من إيجاده، والأصل في الأسباب ترتب المسببات عليها من غير مهلة وعلى التراخي في الرتبة أيضاً بأن ذلك - لكونه شديد المباينة لأصله - من أعجب العجب :﴿ثم﴾ أي بعد حين، وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سبباً لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له سبحانه من صفات الكمال فقال :﴿جعل منها﴾ أي تلك النفس ﴿زوجها﴾ أي ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه : قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه، فلا تزيدون على ما قدره شيئاً ولا
٤٢١


الصفحة التالية
Icon