ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب، وأشرف المراتب، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله : فقال في عبارة عامة له ولغيره، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله :﴿إن الذين يلحدون*﴾ أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغظ وكل ما يشمله عما تصح إرادته.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٥٧٦
ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة، أعاد مظهرها فقال :﴿في آياتنا﴾ على ما لها من العظمة الدالة على مل لنا من الوحدانية وشمول العلم وتمام القدرة : ولما كان العلم بالإساءة مع القدرة سبباً للأخذ، قال مقرراً للعلم بعد تقرير القدرة :﴿لا يخفون علينا﴾ أي في وقت من الأوقات ولا وجه من الوجوه، ونحن قادرون على أخذهم، فمتى شئنا أخذنا، ولا يعجل إلا ناقص يخشى الفوت.
ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار، وكان التقدير : ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن من كل مخوف، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار، سبب عنه قوله تعالى :﴿أفمن يلقى في النار﴾ أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه ﴿خير أم من يأتي﴾ إلينا ﴿آمناً يوم القيامة﴾ حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه، والآية من الاحتباك : ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً، وسره أنه ذكر المقصود بالذات، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً.


الصفحة التالية
Icon