ولما أخبر آخر الآية السالفة عن حاله عند الشر، قدم هنا ضده على صلته اهتماماً به خلاف ما في سورة هود عليه السلام فقال :﴿رحمة منا﴾ أي نعمة عظيمة دلت على إكرامه من جهة لا يرجوها، وهو من فائدة التعبير بأداة الشك، ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه ليكون قد جمع مباشرة الأحوال الثلاث : الانتقام والإكرام وما بينهما من الوسط الذي بين حالتي الرضا والسخط، ثم شرع بيان ذلك فقال :﴿من بعد ضراء﴾ أي محنة وشدة عظيمة ﴿مسته﴾ فطال بروكها عليه ؛ وأجاب القسم لتقدمه على الشرط بقوله :﴿ليقولن﴾ بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك :﴿هذا﴾ أي الأمر العظيم ﴿لي﴾ أي مختص بي لما لي من الفضل، لا مشاركة لأحد معي فيه مع أنه ثابت لا يتغير انتقالاً من حالة اليأس إلى حالة الأمن والبطر والكبر والأشر على قرب الزمن من ذوق المحن وينسى أنها من فضل الله ليقيدها بشكرها، ويطردها بكفرها ﴿قائمة﴾ أي ثابتاً قيامها، فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله، لكونه يفعل أفعال الشاك فيها كما كان قطع الرجاء من الخير عند مباشرته للشر لكنه هنا قال على سبيل التقدير : والفرض، لدفع من يعظه محققاً لدوام نعمته :﴿ولئن رجعت﴾ أي على سبيل
٥٨٧
الفرض بقسر قاسر ما ﴿إلى ربي﴾ أي الذي أحسن إليّ بهذا الخير الذي أنا فيه ﴿إن لي عنده﴾ وأكده على من يعظه بأنه يعذب إن لم يحسن قبله وقالبه ﴿للحسنى﴾ أي الحالة والرتبة البالغة في الحسن حداً لا يوصف لأني أهل لذلك، والدليل على تأهيلي له ما أنا فيه الآن من الخير، ونسي ما يشاهده غالباً من أن كثيراً من النعم يكون للاستدارج، ومن أن كثيراً من الناس يكون في غاية النعمة فيصبح وقد أحاطت به كل نقمه، فهو بين أمنيتين في الدنيا بقوله هذا، وفي الاخرة يقول : يا ليتي كنت تراباً، فلا يزال في المحال - نعوذ بالله من سوء الحال.