ولما كان أكثر شرابه بعد الماء اللبن، ثنى به فقال سبحانه :﴿وأنهار من لبن﴾ ولما كان التغير غير محمود، وكانوا يعهدون ف يالدنيا أن اللبن كله على جميع أنواعه طيب حال نزوله من الضرع مع اختلاف ذوات الدر في الأشكال والأنواع والمقادير والأمزجة، ومع انفصال كل واحدة منها من الأخرى، وأنه إنما يتغير بعد حلبه، عبر بما ينفي التغير في الماضي فقال :﴿لم يتغير طعمه﴾ أي بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر، وهذا يفهم أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير، وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة كما كان في الدنيا متنوعاً.
ولما كان أكثر ما بعد اللبن الخمر قال :﴿وأنهار من خمر﴾ ولما كانت الخمر يكثر طعمها، وإنما يشربها شاربوها لأثرها، وأنه متى تغير طعمها زال اسمها، عرف أن كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن غير متعرض لطعم فقال :﴿لذة﴾ أي ثابتة لها اللذة ودائمة حال شربها وعبده ﴿للشاربين *﴾ في طيب الطعم وحسن العاقبة.
١٥٩
ولما كان العسل أعزها وأقلها، أخره وإن كان أجلها فقال :﴿وأنهار من عسل﴾ ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً بالشمع وغيره من القذى قال :﴿مصفى﴾ أي هو صاف صفاء ما أجتهد في تصفيته من ذلك، وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له عنه في وقت ما، فقد حصل بهذا غاية التشويق إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ به من أشربة الدنيا لأنه غاية ما نعلم من ذكل مجرداً عما ينقصه أو ينغصه مع الوصف بالغزارة والاستمرار قال البغوي : قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سبحان نهر عسلهم.
وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.