ولما ذكر كثرة عبادتهم إخلاصهم فيها اهتماماً به لأنه لا يقبل عملاً بدونه، دل على كثرتها بقوله :﴿ سيماهم ﴾ أي علامتهم التي لا تفارقهم ﴿ في وجوههم ﴾ ثم بين العلامة بقوله :﴿ من أثر السجود ﴾ فهي نور يوم القيامة - رواه الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه النبي ﷺ - هذا مع ما لهم من مثل ذلك في الدنيا من أثر الخشوع والهيبة بحيث إنه إذا رئي أحدهم أورث لرائيه ذكر الله، وإذا قرأ أورثت قراءته حزناً وخشوعاً وإخباتاً وخضوعاً، وإن كان رث الحال رديء الهيئة، ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من هيئة أثر سجود في جبهته، فإذا ذلك من سيما الخوارج، وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثفن : ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : رأى رجلاً بين عينيه مثل ثفنة العنز، فقال : لو لم يكن هذا لكان خيراً - يعني كان على جبهته أثر السجود، وإنما كرهها خوفاً من الرياء بها، وقد روى صاحب الفردوس عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :" إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود ".
ولما أتم وصفهم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه أحد إلا من صفاه الله من جميع حظوظه وشهواته، أشار إلى علوه فقال :﴿ ذلك ﴾ أي هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال ﴿ مثلهم في التوراة ﴾ فإنه قال فيها : أتانا ربنا من سببنا وشرق لنا من جبل ساعير، وظهر لنا من جبل فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره وهم يتبعون آثارك.
فظهوره من فاران صريح في نبوة محمد ﷺ فإنه لم يأت منها - وهي جبال مكة باتفاقهم - بعد نزول التوراة بالنبوة غيره ﷺ، وربوات الأطهار إشارة إلى كثرة أمته، وأنهم في الطهارة كالملائكة، وأيد ذلك جعلهم من أهل اليمين، ووصفهم بالتحبيب إلى الشعوب، فكل ذلك دال على ما وصفوا به منا من