ولما كان ذلك لا يتأتي إلا بتنزل يقطع مسافات البعد التي هي الحجب ليصير به بحيث يراه البشر، عبر بقوله :﴿نزلة﴾ وانتصب على الظرفية لأن الفعلة بمعنى المرة الأعلى، وعين الوقت بتعين المكان فقال :﴿عند سدرة المنتهى *﴾ أي الشجرة التي هي كالسدر وينتهي إليها علم الخلائق وينتهي إليها ما يعرج من تحت وما ينزل من فوق، فيتلقى هنالك، وذلك - والله أعلم - ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوة قبل الهجرة بقليل بعد الترقي في معراج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينهما من المسافات، فانتهى إلى منتهى يسمع فيه صريف الأقلام، وعظمها بقوله :﴿عندها﴾ أي السدرة ﴿جنة المأوى *﴾ الذي لا مأوى في الحقيقة غيره لأنه لا يوازي في عظمه،
٣١٩
وزاد في تعظيمها بقوله :﴿إذ يغشى السدرة ما يغشى *﴾ أي يغطيها ويركبها وسمره ؟ من فراش الذهب والرفرف الأخضر والملائكة والنبق وغير ذلك فإن الغشو النبق ﴿ما يغشى﴾ لا تحتملون وصفه وهو بحيث يكاد أن لا يحصى، وإليه الإشارة بقوله ﷺ في الحديث :"وغشيها، ألا وإني لا أدري ما هي فليس أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها" أو كما قال ﷺ، وأكد الرؤية وقررها مستأنفاً بقوله :﴿ما زاغ﴾ أي ما مال أدنى ميل ﴿البصر﴾ أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه، فما قصر عن النظر فيما أذن له فيه ولا زاد ﴿وما طغى *﴾ أي تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه مع أن ذلك العالم غريب عن بني آدم، وفيه من العجائب ما يحير الناظر، بل كانت له العفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل، فأثبت ما رآه على حقيقته، وكما قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه : وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية، وهذه غامضة من غوامض الأدب، اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣١٨