ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن، قال نافياً لذلك :﴿هو أعلم بكم﴾ أي بذواتكم وأحوالكم منك بأنفسكم ﴿إذ﴾ أي حين ﴿أنشاكم﴾ ابتداء ﴿من الأرض﴾ التي طبعها طبع الموت : البرد واليبس بإنشاءإبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح ﴿وإذ﴾ أي حين ﴿أنتم أجنة﴾ أي مستورون.
ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن، حقق معناه بقوله :﴿في بطون أمهاتكم﴾ بعد أن مزج بلك التراب البارد اليابس الماء والهواءن فنشأت الحرارة والرطوبة، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية، ولكن لا علم لكم أصلاً، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم
٣٢٨
مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً.
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى، سبب عن ذلك قوله :﴿فلا تزكوا﴾ أي تمدحدوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة ﴿أنفسكم﴾ أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قال القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه، وربما حصل له الأذى بسببه "وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع" الحديث، ولذلك علل بقوله :﴿هو أعلم﴾ أي منكم ومن جميع الخلق ﴿بمن اتقى﴾ أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين، فكيف بمن صار له التقوى وصفاً ثابتاً.