ولما كان الآخر ينبغي له أن يحذر ما وقع للأول، وكان قوم فرعون قد جاء بعد قوم لوط عليه السلام، فكان ربما ظن أنهم لم ينذروا لأن من علم أن العادة جرت أن من كذب الرسل هلك أنكر أن يحصل ممن تبع ذلك تكذيب، قال مقسماً :﴿ولقد جاء آل فرعون﴾ أي ملك القبط بمصر وأشرافه الذين إذا رؤوا كان كأنه رئي فيهم لشدة قربهم منه وتخلقهم بأخلاقهم ﴿النذر *﴾ أي المنذرون بنذارة موسى وهارون عليهما السلام، فإن نذارة بعض الأنبياء كنذارة الكل لأنه يأتي أحد منهم إلا وله من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، والمعجزات كلها متساوية في خرق العادة، وكان قد أنذرهم يوسف عليه السلام، ولما كان كأنه قيل : فما فعلوا عند مجيء ذلك إليهم، قال :﴿كذبوا﴾ أي تكذيباً عظيماً متسهينين ﴿بآياتنا﴾ التي أتاهم بها موسى عليه السلام وغيرها لأجل تكذيبهم بها على ما لها من العظمة المعرفة قطعاً عن أنها من عندنا.
ولما كانت خوارق العادات كما مضى متساوية الأقدام في الدلالة على صدق الآتي بها، وكانوا قد صمموا على أنه مهما أتاهم بآياة كذبوا بها، كانوا كأنهم قد أتتهم كل آية لفذلك قال :﴿كلها﴾ وسبب عن ذلك القول :﴿فأخذناهم﴾ أي بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوع من الإغراق ﴿أخذ عزيز﴾ أي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء
٣٦٤
﴿مقتدر *﴾ أي لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه، بالغ القدرة إلى حد للا يدرك الوصف كنهه لأن صيغة الافتعال مبناها على المعاجلة من عاجل فعلاً أجهل نفسه فيه، فكان على أتم الوجوه، وهذه الغاية هي المرادة ليس غيرها، فهوتمثيل لأنه سبحانه يخاطبنا بما نعبده، وبهذه المبالغة فلم يلفت منهم أحد، وقد ختمت القصص بمثل ما افتتحت به من عذاب المفسدين بالإغراق ليطابق الختم البدء، وكانت نجاة المصلحين من الأولين بالسفينة، وكانت نجاة المصلحين من الآخرين بأرض البحر كانت هي سفينتهم، ليكون الختم أعظم من البدء كما هو شأن أهل الاقتدار.


الصفحة التالية
Icon