ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة، بين ثمرة أعماله بقوله :﴿لكيلا﴾ أي أعملناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، لأن الحزن لا يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه، كما قال النبي ﷺ :"يا معاذ ليقلّ همك ما قدر يكن" أجل أن لا ﴿تأسوا﴾ أي تحزنوا حزناً كبيراً زائداً ﴿على﴾ ما في أصل الجبلة، يوصل إلى المبلغ بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها السخط وعدم الرضا بالقضاء، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم ﴿ما فاتكم﴾ من المحبوبات الدنيوية ﴿ولا تفرحوا﴾ أي تسروا سروراً يوصل إلى البطر بالتمادي مع ما في أصل الجبلة ﴿بما آتاكم﴾ أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو بالقصر، وأعطاكم الله على قراءة الباقين بالمد، وهي تدل على أن النعم لا بد في إيجادها وإبقائها من حافظ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من فقد ما لديه من أعيان ومعان قبل أن تأمره بالعدم والوجدان، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح الصادق : ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الوفت، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك الموت - انتهى، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا
٤٥٦
يفيدهم، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله، وذلك بأن يقول في المصيبة : قدر الله وما شاء الله فعل ويصير في النعمة هكذا قضى، وما أدري ما مثله ﴿هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر﴾ [النمل : ٤٠] فلا يزال خائفاً عند النقمة راجياً أثر النعمة، قائلاً في الحالين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه له في كلتا الحالتين كما قال القائل :
سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن ما كان قلبي للصبابة بمعهدا


الصفحة التالية
Icon