ولم قدم المعمول لفعل غير مذكر ليدل عليه بما يفسره ليكون مذكوراً مرتين تأكيداً له إفهاماً لذم نفس الابتداع، أتبعه المفسر لعامله فقال :﴿ابتدعوها﴾ أي حملوا أنفسهم على عملها والتطيق بها من غير أن يكون لهم فيها سلف يعلمونه أو يكون بما صرح به كتابه وإن كانت مقاصده لا تأباها فاعتزلوا لأجلها الناس، وانقطعوا في الجبال على العامل سر آخر وهو الصلاحية للعطف على ما قبلها لئلا يتوهم في لفظ الابتداع أن لا صنع لله فيها ﴿ما كتبناها﴾ أي فرضناها بعظمتنا ﴿عليهم﴾ في كتابهم ولا على لسان رسولهم ﴿إلا﴾ أي لكن ابتدعوها ﴿ابتغاء﴾ أي لأجل تكليفهم أنفسهم الوقوع بغاية الاجتهاد في تصفية القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأعمال على ﴿رضوان الله﴾ أي الرضا العظيم من الملك الأعظم، وساق المنقطع مساق المتصل إشارة إلى أنه مما يرضي الله، وأنه ما ترك فرضها عليهم إلا رحمة لهم لأجل صعوبتها، وأنه صيرها بعد إلزامهم بها كالمكتوبة، فيكون التقدير حينئذ : إلا لأجل أن يبتغوا رضوانه على وجه الثبات والدوام، قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري في كتابه " فتوح مصر والمغرب " : فلما أن أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده كما حدثنا هانئ بن المتوكل عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن تبيع قال : استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة لموسى عليه السلام في الرجوع إلى أهله وماله بمصر فأذن لهم ودعا لهم بترهبوا مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله عز وجلن ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام.
ولما تسبب عن صعوبتها أنهم أضاعوها بالتقصير عن شؤونها والسفول عن عليائها
٤٦٢
قال :﴿فما رعوها﴾ أي حفظوها كلهم بحفظ من هو مرتاع من خوف ضياعها ﴿حق رعايتها﴾ بصون العناية في رعاية الأعمال والأحوال والأقوال، فصون الأعمال توفيرها ورعاية الوقت الوقف مع حضور على بساط شهود الجلال - ذكره الرازي.


الصفحة التالية
Icon