ولما كان ﷺ هو ومن معه فريقاً والأعداء فريقاً، وقد أبهم آخر الملك الضال في الفريقين قال :﴿بأبيكم﴾ أي في أي فريقيكم ﴿المفتنون *﴾ أي بالضلال والجنون حتى صد عن الهدى ودين الحق، أو بأيكم الفتنة بالجنون وغيره على أن يكون مصدر فتن، قال الرازي : مصدر مثل المفتون وهو الجنون بلغة قريش كما يقال : ما له معقول وليس له مجلود، أي عقل وجلادة.
ولما كان هذا إخبار بجنونهم لضلالهم على هذا الوجه المتصف، وكان مثل هذا يقد يقع في محاورات الناس بضرب من الظن، استأنف تعالى ما هو كالتعليل لما أفاده السياق من هذا الحكم عليهم إعلاماً بأنه ناشئ عن علم قطعي لا مرية فيه بوجه، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يكون الأمر على ما أفاده ما تقدم : إن ربك أي الذي رباك أحسن تربية وجبلك على أعظم الخلائق ﴿هو﴾ أي وحده ﴿أعلم﴾ أي من كل أحد لا سيما من يتحرض ﴿بمن ضل﴾ أي حار وجار وذهب وزل وضاع وغاب غيبة عظيمة لا يهتدي منها، وسلك غير سبيل القصد، واخطأ موضع الرشد، معرضاً ﴿عن سبيله﴾ فكان أجن المجانين لأنه سبحانه وتعالى خالقهم، وشارعه " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ولا سيما وهو الحي القيوم الذي لا يغفل ﴿وهو﴾ أي خاصة ﴿أعلم بالمهتدين *﴾ أي الثابتين على الهدى وهم أولوا الأحلام والنهى، وهذا سر القدر الذي يقال : إنه إنما يظهر يوم الحاقة.
٩٩
ولما كان من طبع البشر أن الحليم منهم الرزين إذا اشتد عليه الأذى ممن لم تجر العادة بأن مثله يطيق مثلهم قاربهم ولا يتهم فيما الخلاف بسببه بعض المقاربة، وكان سبب تلك المقاربة إنما هو عدم علمه بالعواقب، سبب سبحانه ما مضى من إعلامه بحقائق الأمور وكشفه لمستورها قوله إلهاباً وتهييجاً على الثبات على معاصاتهم إعلاماً للضال بأماراته ليعلم المهتدي لأن الأمور تعلم بأضدادها.