ولما كان التقدم عند الناس لا سيما العرب محبوباً والتأخر مكروهاً، وكان سبحانه وتعالى قد خلق في الإنسان قوة واختياراً بها يفعل ما قدره الله له وغطى عنه علم العاقبة حتى صار الفعل ينسب لأإيه وإن كان إنما هو بخلق الله، قال تعالى باعثاً لهم على الخير ومبعداً من الشر مستأنفاً أو مبدلاً جواباً لمن يقول : وما عسى أن نفعل ؟ أو ينفع الإنذار
٢٣٤
وقد قال إنه هو الهادي المضل ﴿يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء﴾ ﴿لمن شاء﴾ أي بإرادته، وصرح بالمقصود لئلا يتعنت متعنتهم فيقول : المراد غيرنا، فقال :﴿منكم﴾ أي أيها المعاندون ﴿أن يتقدم﴾ أي إلى الخيرات ﴿أو يتأخر *﴾ أي عنها فيصل إلى غضب الله تعالى والنار التي هي أثر غضبه، التي جعل ما عندنا من مؤلم الحر ومهلك البرد متأثراً عن نفسيها تذكيراً لنا ورحمة بنا، وحذف المفعول لأن استعماله كثير حتى صار يعرف وإن لم يذكر، وترجمة ذلك : لمن شاء أن يتقدم التقدم بما له من المكنة والاختيار في ظاهر الأمر، ولمن شاء أن يتأخر التأخر، و﴿أن يتقدم﴾ مبتدأ، وهو مثل " لمن يتوضأ أن يصلي " ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من " للبشر " على طريق الالتفات من الغائب إلى الحاضر ليصير كل مخاطب به كأنه هو المقصود بذلك بالقصد الأول فيتأمل المعنى في نفسه فيجده صادقاً ثم يتأمل فلا يجد مانعاً من تعديته إلى غيره من جميع البشر، ويكون " أن " والفعل على هذا مفعولاً لـ " شاء ".
ولما كان التقدم والتأخر بالأفعال، وكان أكثر أفعال الإنسان الشر لما جبل عليه من النقصان، قال مبيناً لما يقدم وما يؤخر ﴿كل نفس﴾ أي ذكر أو أنثى على العموم ﴿بما كسبت﴾ أي خاصة لا بما كسب غيرها ﴿رهينة *﴾ أي مرتهنة بالفعل، اسم بمعنى.
الرهن كما في قول الحماسي :
أبعد الذي بالعنف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل


الصفحة التالية
Icon