ولما لم يدع وجهاً به على من لا يعرف حاله ﷺ، سبب عنه قوله موبخاً منكراً :﴿فأين تذهبون *﴾ أي بقلوبكم عن هذا الحق المبين يا أهل مكة المجعين لغاية الفطنة وقد علمتم هذا الحفظ العظيم في الرسولين الملكي والبشري فمن أين يأتي ما تدعون من التخليط في هذا الكتاب العظيم الذي دل على حفظه ببرهان عجزكم عن معارضة شيء منه ؟ وهو استضلال لهم واستجهال على أبلغ وجه في كل ما كانوا ينسبونه إليه بحيث صار ضلالهم معروفاً لا لبس فيه.
ولما كان الحال قد صار في الوضوح إلى أنه إذا نبه صاحبه بمثل هذا القول نظر أدنى نظر، فقال من غير وقفة : لا أين، قال :﴿إن﴾ أي ما ﴿هو﴾ أي القرآن الذي أتاكم به ﴿إلا ذكر للعالمين *﴾ أي شرف للخق كلهم من الجن والإنس والملائكة وموعظة بليغة عظيمة لهم.
ولما تشرف الوجود كله بإظهاره فيه نوع تشرف، أطلق هذه العبارة.
ولما كان الذي ثم شرفه المهتدي، فكان الوعظ والشرف إنما هو له في الحقيقة قال :﴿لمن شاء منك﴾ أي أيها المخاطبون ﴿أن يستقيم *﴾ أي يطلب القوم ويوجده.
ولما كان ذلك ربما تعنت به المتعنت في خلق الأفعال، قال نافياً لاستقلالهم ومثبتاً للكسب :﴿وما تشاءون﴾ أي أيها الخلائق الاستقامة ﴿إلا أن يشاء الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا حكم لأحد سواه مشيئتكم، وإن لم يشأها لم تقدروا على مشيئة، فادعوه مخلصين له الدين يشأ لكم ما يرضيه فيفقكم إليه، وعن وهب بن منبه أنه قال : الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بضع وتسعون كتاباً قرأت منها بضعاً وثمانين كتاباً فوجدت فيها : من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر - انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٢
ومن تأمل هذه الآية أدنى تأمل علم أن كلام المعتزلة بعدها في القدر دليل على أن الإنسان إذا كان له هوىً لا يرده شيء أصلاً ﴿ومن يضلل الله فما له من هاد﴾ [الرعد : ٣٣].
٣٤٥
ولما وصف نفسه سبحانه بأنه لا يخرج شيء عن أمره، أتبع ذلك الوصف بما هو كالعلة لذلك فقال :﴿رب العالمين *﴾ أي الموجد لهم والمالك والمحسن إليهم والمربي لهم وهو أعلم بهم منهم، فلأجل ذلك لا يقدرون إلا على ما قدرهم عليه، ويجب على كل منهم طاعته والإقبال بالكلية عليه سبحانه وتعالى وشكره استمطاراً للزيادة، فلهذه الربوبية صح تصرفه في الشمس وما تبعها مما ذكر أول السورة لإقامة الساعة لأجل حساب الخلائق، والإنصاف بينهم بقطع كل العلائق، كما يفعل كل رب مع من يربيه فكيف بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين! فقد التقى طرفاها على أشرف الوجوه وأجلاها، وانتظم أول الانفطار بما له من بديع الأسرار، فالتكوير كالانشقاق والتفطير، والانكدار مثل التساقط والانتشار، والله سبحانه هو أعلم بالصواب.
٣٤٦
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٣٤٢


الصفحة التالية
Icon