ولما كان الإبداع أدل ما يكون مع التنزه على الكمال لا سيما النور الذي هو سبب الانكشاف والظهور، مع أنه تفصيل لقوله " مم خلق " وهو أدل شيء على البعث المذكور " في يوم تبلى السرائر " قال مبيناً للفاعل الذي أبهمه لوضوحه في " مم خلق " مرغباً في الفكر في أفعاله سبحانه وتعالى الذي هو السبب الأقرب للسعادة بالدلالة عليه بما له من الجائزات بعد الترغيب في الذكر الذي هو المهيئ للفكر :﴿الذي خلق﴾ أي أوجد من العدم أي له صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء ﴿فسوّى﴾ أي أوقع مع الإيجاد وعقبه التسوية في كل خلق بأن جعل له ما يتأتى معه كماله ويتم معاشه، وعدل بين
٣٩٤
الأمزجة الأربعة الماء والهواء والنار بعد أن قهرها على الجمع مع التضاد لئلا تتفاسد، وذلك بالعلم التام والقدرة الكاملة دلالة على تمام حكمته وفعله بالاختيار.
وقال الاستاذ أبو جعفر بن ألزبير : لما قال سبحانه وتعالى مخبراً عن عمه الكفار في ظلام حيرتهم ﴿إنهم يكيدون كيداً﴾ [الطارق : ١٥] وكان وقوع ذلك من العبيد المحاط بأعمالهم ودقائق أنفاسهم وأحوالهم من أقبح مرتكب وأبعده عن المعرفة بشيء من عظيم أمر الخالق جل جلاله وتعالى علاؤه وشأنه، أتبع سبحانه ذلك بأمر نبيه ﷺ بتنزيه ربه أي نزهه عن قبيح مقالهم، وقدم التنبيه على التنزيه في أمثال هذا ونظائره ووقوع ذل أثناء السور فيما بين سورة وأخرى، وأتبع سبحانه وتعالى من التعريف بعظيم قدرته وعليّ حكمته بما يبين ضلالهم فقال ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ [الأعلى : ٢ - ٣] فتبارك الله أحسن الخالقين، وتنزه عما يتقوله المفترون - انتهى.