ولما كان العالم أولى باتباع الحق وأشد جرماً عند فعل ما يقتضي اللوم، بدأ بقوله :﴿من أهل الكتاب﴾ أي من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً، فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا ﴿والمشركين﴾ أي بعبادة الأصنام والنار والشمس ونحو ذلك ممن هم منفصلين زائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا يبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً، من فك الكتاب والختم والعظم - إذا زايل ما كان ملتصقاً ومتصلاً به، أو عما في أنفسهم من ظن اتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به بما كان أهل الكتاب يستفتحون به والمشركون يقسمون بالله جهد أيمانهم ﴿لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم﴾ [فاطر : ٤٢] فيصيروا بذلك أحزاباً وفرقاً ﴿حتى﴾ أي إلى أن ﴿تأتيهم﴾ عبر بالمضارع لتجدد البيان في كل وقت بتجدد الرسال والتلاوة ﴿البينة *﴾ أي الآية التي هي في البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي غلا ظهوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء كان التوراة أو الإنجيل أو الزبور أو الفرقان، ولذلك أبدل منها قوله :﴿رسول﴾ أي عظيم جداً، وزاد عظمته بقوله واصفاً له :﴿من الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام ﴿يتلوا﴾ أي يقرأ قراءة متواترة ذلك الرسول بعد تعليمنا له ﴿صحفاً﴾ جمع صحيفة وهي القرطاس والمراد ما فيها، عبر بها عنه لشدة المواصلة ﴿مطهرة *﴾ أي هي في غاية الطهارة والنظافة والنزاهة من كل قذر بما جعلنا لها من البعد من الأدناس بأن الباطل من الشرك بألأوثان وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها وأنها لا يمسها إلا المطهرون، وقراءته وإن كان أمياً لمثل ما فيها قراءة لها.