" صفحة رقم ١٤٨ "
فلما سمع ذلك أُتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع، معفّرة وجوههم في التراب، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم ؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا وكان أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمته، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبداً، ولكنّا نعبد الله ربّنا، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصاً، إيّاه نعبد، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها، فلن نعبدها أبداً، فاصنع بنا ما بدا لك. ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمرهم فنُزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثمّ قال : أمّا إذا فعلتم فإنّي سأُؤخركم، وسأفرغ لكم فأُنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلاّ أني أراكم شباباً، حديثة أسنانكم، ولا أُحب أن أُهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكّرون فيه، وتراجعون عقولكم.
ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم، ثمّ أمر بهم حتى أُخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريباً منهم لبعض أُموره، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه، ويعبدون الله عزّ وجلّ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء.
فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، وأتبعهم كلب كان لهم، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مراراً، فقال لهم الكلب : ما تريدون منّي ؟ لا تخشون إجابتي. أنا أُحب أحبّاء الله، فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلاّ الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتىً منهم يُقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرًّا، وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حساناً، ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاماً وشراباً ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر : هل ذكروا أصحابه بشيء ؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه.


الصفحة التالية
Icon