وقيل : الفتنة عذاب الآخرة كما قال تعالى :﴿ذوقوا فتنتكم﴾ (الذاريات، ١٤).
﴿ولا تقاتلوهم﴾ أي : لا تبدؤوهم ﴿عند المسجد الحرام﴾ أي : في الحرم ﴿حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم﴾ فيه ﴿فاقتلوهم﴾ فيه فإنهم هم الذين هتكوا حرمته، وقرأ حمزة والكسائي : ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم بفتح التاء الفوقية من تقتلوهم والياء من يقتلوكم وسكون القاف ولا ألف بعد القاف وضم التاء فيهما، والباقون بفتح التاء والياء وفتح القاف وبعد القاف ألف وكسر التاء، وأمّا فإن قاتلوكم فحذف حمزة والكسائي الألف وأثبتها الباقون، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : حتى يقتلوا بعضكم، جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم كقول بعض العرب : قتلنا بني أسد أي : بعضهم، وقال بعضهم : وإن تقتلونا نقتلكم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٥
كذلك﴾
أي : القتل والإخراج ﴿جزاء الكافرين﴾ أي : يفعل بهم مثل ما فعلوا ﴿فإن انتهوا﴾ عن الكفر وأسلموا ﴿فإنّ الله غفور﴾ يغفر لهم ما قد سلف ﴿رحيم﴾ بهم فلا يؤاخذ بذلك.
﴿وقاتلوهم حتى لا تكون﴾ أي : توجد ﴿فتنة﴾ أي : شرك ﴿ويكون الدين﴾ أي : العبادة ﴿﴾ وحده لا يعبدون سواه ﴿فإن انتهوا﴾ عن الشرك فلا تعتدوا عليهم. دل على هذا ﴿فلا
١٤٦
عدوان﴾
أي : اعتداء بقتل أو غيره ﴿إلا على الظالمين﴾ أي : فلا تعتدوا على المنتهين ؛ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم والفاء الأولى للتعظيم والثانية للجزاء وسمي جزاء، الظالمين عدواناً للمشاكلة كقوله تعالى :﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه﴾.
﴿الشهر الحرام﴾ أي : المحرم مقابل ﴿بالشهر الحرام﴾ وذلك أنّ النبيّ ﷺ لما خرج معتمراً في ذي القعدة سنة ست، وصدّه المشركون عن البيت بالحديبية، ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع واستعظم المسلمون قتالهم في الشهر الحرام نزلت هذه الآية، أي : هذا الشهر بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به.
وقوله تعالى :﴿والحرمات قصاص﴾ احتجاج عليه أي : كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص، وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، أي : فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليه عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، أي : كما قال تعالى :﴿فمن اعتدى عليكم﴾ بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام ﴿فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ سمي الجزاء باسم الاعتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى :﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى، ٤٠).
﴿واتقوا الله﴾ في الانتصار لأنفسكم منهم، ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم ﴿واعلموا أنّ الله مع المتقين﴾ بالعون والنصر فيحرسهم ويصلح شأنهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٥
﴿وأنفقوا في سبيل الله﴾ أي : طاعته سواء الجهاد وغيره ﴿ولا تلقوا بأيديكم﴾ أي : بأنفسكم، عبر بالأيدي عن الأنفس كقوله تعالى :﴿بما كسبت أيديكم﴾ (الشورى، ٣٠) أي : بما كسبتم والباء زائدة ﴿إلى التهلكة﴾ أي : الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو الإسراف فيها، حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن ترك الزور الذي هو تقوية للعدوّ.
روي أنّ رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري : نحن أعلم بهذه الآية، وإنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله ﷺ فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلنا وأولادنا وأموالنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله ووضعت الحرب أوزارها رجعنا إلى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية، فتوفي هناك ودفن في أصل سورها وهم يستسقون به.
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله ﷺ "من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله، تعالى قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول : قد هلكت ليست لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك كما قال تعالى :﴿إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ (يوسف، ٨٧) ﴿وأحسنوا﴾ أي : بالنفقة وغيرها ﴿إنّ الله يحب المحسنين﴾ أي : يثيبهم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٤٧
وأتموا الحج والعمرة ﴾
أي : أدوهما بحقوقهما. وفي الآية حينئذٍ دليل على وجوبهما،
١٤٧


الصفحة التالية
Icon