والذين اتقوا} أي : الشرك وهم هؤلاء الفقراء ﴿فوقهم يوم القيامة﴾ لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل السافلين، أو حالهم غالبة لحالهم ؛ لأنهم في كرامة وهم في هوان أو هم غالبون عليهم متطاولون يضحكون منهم، كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا، ويرون الفضل لهم عليهم، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون.
روي عن أسامة بن زيد أنه قال : قال رسول الله ﷺ "وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين، ووقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها النساء، وإذا أهل الجدّ محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار".
وروي عن سهل سعد الساعدي أنه قال : مرّ رجل على رسول الله ﷺ فقال لرجل عنده جالس :"ما رأيك في هذا ؟
" قال رجل من أشراف الناس : هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع قال : فسكت رسول الله ﷺ ثم مرّ رجل آخر فقال له رسول الله ﷺ "ما رأيك في هذا ؟
" فقال : يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري ـ أي حقيق ـ إن خطب أن لا
١٥٨
ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله ﷺ "هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا".
﴿وا يرزق من يشاء﴾ في الدارين ﴿بغير حساب﴾ أي : رزقاً واسعاً بغير تقدير في الدنيا للكافر استدراجاً، كما وسع على قارون، وللمؤمن ابتلاء كما وسع على عبد الرحمن بن عوف، وفي الآخرة للمؤمن خاصة تفضلاً.
﴿كان الناس أمّة واحدة﴾ أي : متفقين على الحق.
روي عن أبي العالية عن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره، وأقرّوا بالعبودية أمّة واحدة مسلمين، ولم يكونوا أمّة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم، وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح، كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح، وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح، وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح، وقال مجاهد : أراد آدم وحده كان أمّة واحدة سمي الواحد بلفظ الجمع ؛ لأنه أصل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله حوّاء ونشر منهما الناس فكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل وهابيل فاختلفوا.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمّة واحدة كافرين كلهم، فبعث الله، إبراهيم وغيره من النبيين عليهم السلام كما قال تعالى :﴿فبعث الله النبيين﴾ أي : اختلفوا فبعث الله وإنما حذف لدلالة فيما اختلفوا فيه عليه، وجملة الأنبياء، كما رواه الإمام أحمد مرفوعاً في حديث ورد عن كعب "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر" والمذكور منهم في القرآن باسمه العلم الموضوع له ثمانية وعشرون نبياً، وهم : آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسمعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، ولوط، وموسى، وهرون، وشعيب، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وذو الكفل، وأيوب، ويونس، ومحمد، عليهم أجمعين، وذو القرنين وعزير ولقمان على القول بنبوّة الثلاثة.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٥٨
مبشرين﴾
من آمن وأطاع بالجنة ﴿ومنذرين﴾ من كفر وعصى بالنار ﴿وأنزل معهم الكتاب﴾ المراد به الجنس فهو بمعنى الكتب لكنه تعالى لم ينزل مع كل واحد كتاباً يخصه، فإنّ أكثرهم لم يكن له كتاب يخصه، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وقوله تعالى :﴿بالحق﴾ حال من الكتاب أي : متلبساً بالحق شاهداً به ﴿ليحكم بين الناس﴾ أي : الله، أو الكتاب، أو النبيّ المبعوث، ورجح الثاني التفتازاني، وقال : لا بدّ في عوده إلى الله من تكلف في المعنى أي : ليظهر حكمه، وإلى النبيّ من تكلف في اللفظ حيث لم يقل : ليحكموا، ورجح أبو حيان الأوّل، وهو الظاهر قال : والمعنى أنه أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ونسبة الحكم إلى الكتاب مجاز كما أن إسناد النطق إليه في قوله تعالى :﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق﴾ (الجاثية، ٢٩) كذلك ﴿فيما اختلفوا فيه﴾ من الدين ﴿وما اختلف فيه﴾ أي : الدين ﴿إلا الذين أوتوه﴾ أي : الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي : عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيلاً للاختلاف سبباً لاستحكام الخلاف، فآمن بعض وكفر بعض.
١٥٩


الصفحة التالية
Icon