والمطلقات يتربصن} ينتظرن ﴿بأنفسهن﴾ عن النكاح ﴿ثلاثة قروء﴾ تمضي من حين الطلاق جمع قرء بفتح القاف وضمها، وهو يطلق للحيض لقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود وغيره :"دعي الصلاة أيام أقرائك"، وللطهر الفاصل بين حيضتين وهو المراد في الآية ؛ لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض، كما قال به بعض العلماء، لقوله تعالى :﴿فطلقوهنّ لعدّتهنّ﴾ أي : وقت عدّتهنّ والطلاق المشروع لا يكون في الحيض، وأمّا ما رواه أبو داود والترمذيّ وغيرهما من قوله ﷺ "طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان" فلا يقاوم ما رواه البخاريّ في قصة ابن عمر "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" أي : بقوله تعالى :﴿فطلقوهنّ لعدّتهن﴾.
فإن قيل : ما معنى ذكر الأنفس فهلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء ؟
أجيب : بأنّ في ذكر الأنفس تهييجاً لهنّ على التربص، وزيادة بعث ؛ لأنّ فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنّ على أن يتربصن، وذلك أنّ نفس النساء طوامح أي : نواظر إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهنّ ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص، وكان القياس في جمع قرء أن يذكر بصيغة القلة، التي هي الإقراء، ولكنهم يتوسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر، ألا ترى إلى قوله : بأنفسهنّ وما هي إلا نفوس كثيرة.
قال البيضاويّ : ولعلّ الحكم لما عمّ المطلقات ذوات الإقراء تضمن معنى الكثرة، فحسن بناء الكثرة ووجوب ذلك في المدخول بهنّ، أمّا غيرهنّ فلا عدّة لهنّ لقوله تعالى :﴿وإن طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّونها﴾ (الأحزاب، ٤٩) وفي غير الآيسة والصغيرة فعدّتهنّ
١٦٩
ثلاثة أشهر، والحوامل فعدّتهنّ أن يضعن حملهنّ كما في سورة الطلاق : والإماء فعدّتهنّ قرآن بالسنة.
﴿ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ﴾ من الولد إن كانت حاملاً ومن الحيض إن كانت حائضاً ﴿إن كنّ يؤمن با واليوم الآخر﴾ قال البيضاويّ : ليس المراد تقييد نفي الحل بإيمانهنّ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان أي : كماله، وأن المؤمن لا يجترىء عليه ولا ينبغي له أن يفعل ﴿وبعولتهنّ﴾ أي : أزواج المطلقات، والبعولة جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤولة ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك : بعل حسن البعولة نعت به مبالغة كما في رجل عدل أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي : وأهل بعولتهنّ ﴿أحق بردّهنّ﴾ أي : بمراجعتهنّ ﴿في ذلك﴾ أي : في زمن التربص.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٦٨
فإن قيل : كيف جعلوا أحق بالرجعة فكان للنساء حقاً فيها ؟
أجيب : بأن أفعل ههنا بمعنى الفاعل فإنّ غير البعل لا حق له في الردّ فكأنه قيل : وبعولتهنّ حقيقون بردّهنّ. وقيل : إنه على بابه للتفضيل أي : أحق منهنّ بأنفسهنّ لو أبين الرد، أو من آبائهنّ، وسمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته وأصل البعل السيد والمالك.
﴿إن أرادوا﴾ أي : البعولة ﴿إصلاحاً﴾ بالرجعة، لإضرار المرأة وليس المراد من هذا اشتراط قصد الإصلاح للرجعة ﴿ولهنّ﴾ على الأزواج ﴿مثل الذي﴾ لهم ﴿عليهنّ﴾ من الحقوق ﴿بالمعروف﴾ شرعاً من حسن العشرة وترك الضرر ونحو ذلك.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى ذلك : إني أحب أن أتزين لامرأتي، كما تحب أن تتزيّن لي لهذه الآية، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول الله ﷺ "إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهن خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم".
فإن قيل : ما المراد بالمماثلة ؟
أجيب : بأنّ المراد أنّ لهنّ حقوقاً على الرجال مثل حقوقهم عليهنّ في الوجوب، واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس إذ ليس الواجب على كلّ منهما من جنس ما وجب على الآخر، فلو غسلت ثيابه أو خبزت له لم يلزمه أن يفعل مثل ذلك، ولكن يقابلها بما يليق بالرجال ﴿وللرجال.
عليهنّ درجة﴾ أي : فضيلة في الحق ؛ لأنّ المرأة تنال من الرجل من اللذة مثل ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وانفاقه في مصالحها ؛ ولأن حقوقهم في أنفسهنّ بالوطء والتمتع، وحقوقهنّ المهر والكفاف وترك الضرار، وقيل بصلاحيته للإمامة والقضاء والشهادة، وقيل : بالجهاد، وقيل : بالميراث وقيل : بالدية، وقيل : بالعقل ﴿وا عزيز﴾ في ملكه قادر على الانتقام ممن خالف الأحكام ﴿حكيم﴾ فيما دبره لخلقه يشرعها لحكم ومصالح.
﴿الطلاق﴾ أي : التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي : الذي يراجع به ﴿مرّتان﴾ أي : اثنتان.
روي عن عروة بن الزبير قال : كان الناس في الابتداء يطلقون من غير حصر ولا عدد، كان الرجل يطلق امرأته، فإذا قاربت انقضاء عدّتها راجعها، ثم طلقها كذلك ثم راجعها بصد مضارتها، فنزلت هذه الآية.
وروى أبو داود وغيره أنه ﷺ سئل : أين الثالثة ؟
فقال ﷺ "أو تسريح بإحسان"
١٧٠