فقلت ما وراءك يا أعرابي ؟
قال : مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة ؛ لأني كنت أطلب شاهداً لاختيار القراءة في سورة البقرة غرفة بالضم.
١٨٧
﴿فشربوا منه﴾ لما وافوه بكثرة وقوله تعالى :﴿إلا قليلاً منهم﴾ أي : فاقتصر على الغرفة، نصب على الاستثناء.
روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه وصح إيمانه وعبر النهر سالماً، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وأروته، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدوّ، واختلفوا في عدد الذين لم يشربوا قال البغوي : الصحيح أنهم ثلثمائة وبضعة عشر أي : عدد أهل بدر، وقال السدّي : كانوا أربعة آلاف ويؤيد الأوّل ما روي عن البراء أنه قال : كنا أصحاب رسول الله ﷺ نتحدّث أن عدّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر، وثلثمائة. ويروى ثلثمائة وثلاثة عشر وفي هذا إيذان بأن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد التائبين من أصحاب طالوت، الذين كان بعددهم أصحاب رسول الله ﷺ يوم بدر وهم ثلثمائة وثلاثة عشر، عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين ولما كان قصص بني إسرائيل مثلاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر، فابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، وفي إفراد اليد إيذان بأنّ الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين، لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشرّ. ﴿فلما جاوزه﴾ أي : النهر ﴿هو﴾ أي : طالوت ﴿والذين آمنوا معه﴾ أي : وهم الذين اقتصروا على الغرفة ﴿قالوا﴾ أي : الذين شربوا ﴿لا طاقة﴾ أي : لا قوّة ﴿لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾ أي : بقتالهم وجبنوا ولم يجاوزوه.
ولما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بهذا القول نبّه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظنّ أنّ أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام، ولا ينقص بالجراءة والإقدام، وأنه يلقى الله تعالى، فيجازيه على عمله، وأنّ النصر من الله لا بالقوّة والعدد فقال :﴿قال الذين يظنون﴾ أي : يوقنون ﴿أنهم ملاقوا الله﴾ بالبعث وهم الذين جاوزوه ﴿كم من فئة﴾ أي : جماعة، وهي جمع لا واحد له من لفظه وجمعه فئات وفئون في الرفع وفئين في النصب والخفض، وكم يحتمل أن تكون خبرية بمعنى كثير، ومن مبينة وأن تكون استفهامية، ومن مؤكدة والأوّل أولى بقرينة المقام ﴿قليلة﴾ كما كان في هذه الأمة في يوم بدر ﴿غلبت فئة كثيرة بإذن الله﴾ أي : بإرادته وتيسيره، ثم انظر إلى هذا الحال العجيب ؛ وهو أنه لما ندبهم انتدب جيش لا يحصون فاشترط عليهم الشاب الفارغ من بناء دار، وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً، ثم امتحنوا بالنصر، فلم يثبت منهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط، من الذين هم دون الدون من المنتدبين، الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك الخارجين معه كما قال القائل :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٨٧
ألم تعلم بأني صيرفي ** أحك الأصدقاء على محكي*
*فمنهم بهرج لا خير فيه ** ومنهم من أجوزه بشك*
*وأنت الخالص الذهب المصفى ** بتزكيتي ومثلي من يزكي*
ثم بين سبحانه وتعالى أنّ ملاك كل ذلك الصبر بقوله :﴿وا مع الصابرين﴾ بالنصر والمعونة فلا يخذل من كان معه.
﴿ولما برزوا﴾ أي : ظهروا وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة ﴿لجالوت﴾ اسم ملك
١٨٨
من ملوك الكنعانيين بالشأم في زمن بني إسرائيل، جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد ﴿وجنوده﴾ على ما هم فيه من القوّة والكثرة التجؤا إلى الله بالدعاء كما نبه على ذلك بقوله :﴿قالوا ربنا أفرغ﴾ أي : أصبب ﴿علينا صبراً وثبت أقدامنا﴾ بتقوية قلوبنا على الجهاد ﴿وانصرنا على القوم الكافرين﴾ وفي الدعاء ترتيب بليغ إذ سألوا : أولا إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب عنه، ثم النصر على العدوّ المترتب عليهما غالباً.