ولما نزلت هذه الآية قال المرابون : بل نتوب إلى الله، فإنه لا ثبات لنا بحرب من الله ورسوله، فرضوا برأس المال فشكا من عليه الدين العسرة وقال لمن لهم الدين : أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى :
﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة﴾ له أي : عليكم تأخيره ﴿إلى ميسرة﴾ أي : وقت يسره.
تنبيه : في كان هذه وجهان : أظهرهما أنها تامّة بمعنى حدث ووجد أي : وإن حدث ذو عسرة، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، الثاني أنها ناقصة وخبرها محذوف، قال أبو البقاء تقديره : وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو نحو ذلك، وقدره بعضهم وإن كان ذو عسرة غريماً، وقرأ نافع بضمّ السين والباقون بفتحها ﴿وأن تصدقوا﴾ أي : بالإبراء وقرأ عاصم بتخفيف الصاد والباقون بالتشديد على إدغام التاء في الأصل والتخفيف على حذفها ﴿خير لكم﴾ أي : أكثر ثواباً من الإنظار وهذا مما فضل المندوب فيه الواجب، فإنّ الإبراء مندوب إليه والإنظار واجب فيحرم حبس المعسر، وهل القول قوله في إعساره أو لا بدّ من بينة تشهد بذلك ينظر إن كان الدين عن عوض كالبيع والقرض فلا بدّ من بينة، وإن كان عن غير عوض كالضمان والإتلاف والصداق، فالقول قول المعسر بيمينه وعلى الغريم البينة إلا أن يعرف له مال فلا بدّ من بينة ﴿إن كنتم تعلمون﴾ فضل التصدق على الإنظار فافعلوا. وقيل : المراد بالتصدّق الإنظار نفسه ورد هذا كما قال الإمام : بأنّ الإنظار قد علم مما قبل فلا بدّ من حمله على فائدة جديدة قال عليه الصلاة والسلام :"لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة".
وروي :"من أنظر معسراً أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة" وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ "إنّ الملائكة تلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له : هل عملت خيراً قط ؟
قال : لا قالوا : تذكر قال : ألا إني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني بأن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر. قال الله تعالى : تجاوزوا عنه" وقال ﷺ "من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله".
﴿واتقوا يوماً ترجعون﴾ أي : تصيرون ﴿فيه إلى الله﴾ هو يوم القيامة أي : فتأهبوا لمصيركم إليه. وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم ﴿ثم توفى﴾ فيه ﴿كل نفس﴾ جزاء ﴿ما كسبت﴾ أي : عملت من خير أو شر ﴿وهم لا يظلمون﴾ بنقص حسنة أو زيادة سيئة.
٢١٤
فائدة : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هذه آخر آية نزلت على رسول الله ﷺ فقال جبريل : ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله ﷺ أحداً وعشرين يوماً" وقال ابن جريج : تسع ليالٍ وقال سعيد بن جبير : سبع ليالٍ ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل وقيل : ثلاث ساعات. وقال الشعبي عن ابن عباس : آخر آية نزلت على رسول الله ﷺ آية الربا. ولما منع الله من الربا أذن في السلم والقرض بما يعمهما فقال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٢
﴿يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين﴾ كسلم وقرض ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي : معلوم ولذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا والله سبحانه وتعالى وضع لتحصيل مثل تلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً.
فإن قيل : المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالإتفاق أجيب : بأن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير تعاملتم بما فيه دين.
فإن قيل : هلا اكتفى بقوله إذا تداينتم إلى أجل وأي حاجة إلى ذكر الدين ؟
أجيب : بأنه ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله :﴿فاكتبوه﴾ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ولئلا يتوهم من الدائن المجازاة ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال، وفائدة قوله مسمى ليعلم أنّ من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال : إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز للجهل بوقت الأجل، وإنما أمر بكتابة الدين ؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٥
فإن قيل : إنّ كلمة إذا لا تفيد العموم والمراد من الآية العموم ؛ لأنّ المعنى كلما تداينتم بدين
٢١٥


الصفحة التالية
Icon