تنبيه : يجوز على مذهب سيبويه أن يكون أقسط وأقوم مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم أو هما مبنيان من أقسط وأقام لا من قسط وقام ؛ لأنّ قسط بمعنى جار، والمعنى هنا على العدل والفعل منه أقسط فلزم أن يكون أقسط في الآية من المزيد لقصد الزيادة في المقسط قال تعالى :﴿إنّ الله يحب المقسطين﴾ (المائدة، ٤٢) لا من المجرّد ؛ لأنّ معناه الزيادة في القاسط وهو الجائز قال تعالى :﴿وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً﴾ (الجن، ١٥) وكذا أقوم معناه أشدّ إقامة لا قياماً وبناؤهما من ذلك على غير قياس، والقياس أن يكون البناء من المجرّد لا من المزيد ويجوز أن يكون بناؤهما من قاسط بمعنى ذي قسط أي : عدل وبمعنى قويم أي : ذي استقامة على طريقة النسب كلابن وتامر فيكون أفعل لا فعل له، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده ﴿وأدنى﴾ أي : وأقرب إلى ﴿أن لا ترتابوا﴾ أي : تشكوا في قدر الحق وجنسه والشهود والأجل ونحو ذلك ﴿إلا أن تكون تجارة حاضرة﴾ وهي تعم المبايعة بدين أو عين ﴿تديرونها بينكم﴾ أي : تتعاطونها يداً بيد ﴿فليس عليكم جناح﴾ أي : لا بأس إذا تبايعتم يداً بيد ﴿أن لا تكتبوها﴾ فهو استثناء من الأمر بالكتابة لبعده حينئذ عن التنازع والنسيان، وقرأ عاصم بنصب التاء فيهما على أنّ تجارة هي الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، والباقون بالرفع فيهما على أنّ تجارة هي الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامّة ﴿وأشهدوا﴾ أي : ندباً ﴿إذا تبايعتم﴾ عليه سواء كان ناجزاً أو كالئاً فإنه أدفع للاختلاف فهو تعميم بعد تخصيص احتياطاً في جميع المبتاعات، ويجوز أن يراد هذا التبايع الذي هو التجارة الحاضرة على أنّ الإشهاد كاف فيه دون الكتابة وقوله تعالى :﴿ولا يضار كاتب ولا شهيد﴾ أصله يضار أدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى وجعل الفعل للكاتب والشهيد ومعناه نهيهما عن ترك الإجابة وعن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة، ومنهم من قال : أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشاهد
٢١٧
مفعولين ومعناه النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهمّ ويكلفا الخروج عما حد لهما ولا يعطى الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان، والمنهي حينئذٍ المتبايعان، فالآية محتملة للبناء للفاعل وللبناء للمفعول فتحمل عليهما معاً أو على كل منهما والأولى أولى.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٥
وإن تفعلوا﴾
ما نهيتم عنه من الضرار ﴿فإنه فسوق بكم﴾ أي : معصية وخروج عن الأمر ﴿واتقوا الله﴾ في مخالفة أمره ونهيه ﴿ويعلمكم الله﴾ أحكامه المتضمنة لمصالحكم ﴿وا بكل شيء عليم﴾ كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإنّ الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة تعظيم الله لشأنه عز وجل، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير وهذا آخر آية الدين، وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى :﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم﴾ (النساء، ٥) الآية.
قال القفال رحمه الله تعالى : ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار. وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال :﴿إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾ ثم قال ثانياً : وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ثم قال ثالثا :﴿ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله﴾ فكان هذا كالتكرار لقوله :﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾ لأنّ العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعاً : فليكتب وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامساً :﴿وليملل الذي عليه الحق﴾ وفي قوله تعالى : وليكتب بينكم كاتب بالعدل كناية عن قوله :﴿وليملل الذي عليه الحق﴾ لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً :﴿وليتق الله ربه﴾ وهذا تأكيد ثم قال سابعاً :﴿ولا يبخس منه شيئاً﴾ وهذا كالمستفاد من قوله :﴿وليتق الله ربه﴾ ثم قال ثامناً :﴿ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله﴾ وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً :﴿ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا﴾ فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢١٥


الصفحة التالية
Icon