تنبيه : احتج الوعيدية بهذه الآية على القطع بوقوع وعيد الفساق قالوا : لأنّ الوعيد داخل تحت لفظ الوعد لقوله تعالى :﴿قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً﴾ (الأعراف، ٤٤) والوعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. وأجيب : بأنا لا نسلم القول بالقطع بوقوع وعيد الفساق مطلقاً بل ذلك مشروط بعدم العفو كما هو مشروط بعدم التوبة بالإتفاق فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه توعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد ويكون قوله :﴿فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً﴾ كقوله تعالى :﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ (آل عمران، ٢١) وكقوله تعالى :﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان، ٤٩) فيكون من باب التهكم، وذكر الواحدي في "البسيط" أنه يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ؛ لأنّ خلف الوعيد كرم عند العرب لأنهم يمدحون بذلك كما قال القائل :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢٣
إذا وعد السرّاء أنجز وعده ** وإن وعد الضرّاء فالعفو مانعه*
وقال الآخر أيضاً :
*وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي*
ولما حكى الله سبحانه وتعالى دعاء المؤمنين وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدّة عقابهم بقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢٣
﴿إنّ الذين كفروا﴾ وهو عام في الكفرة، وقيل : المراد بهم وفد نجران أو اليهود أو مشركو العرب ﴿لن تغنيَ﴾ أي : لن تنفع ولن تدفع ﴿عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً﴾ أي : من عذابه وقيل : من رحمته أو من طاعته على معنى البدلية قاله البيضاوي : أي : على أنّ من للبدل والمعنى لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعته شيئاً أي : بدل رحمته وطاعته. قال أبو حيان : وإثبات البدلية جمهور النحاة تأباه ﴿وأولئك هم وقود النار﴾ أي : حطبها وفي ذلك كمال العذاب ؛ لأنّ كماله أن يزول عنه ما ينتفع به ثم يجتمع عليه الأسباب المؤلمة، فالأوّل هو المراد بقوله
٢٢٩
تعالى :﴿لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم﴾ فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الإنتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ (الشعراء، ٨٩)، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى :﴿وأولئك هم وقود النار﴾ وهذا هو النهاية في العذاب، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٢٩
كدأب آل فرعون﴾
إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون، وإمّا متصل بما قبله أي : لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى :﴿والذين من قبلهم﴾ عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل : استئناف فيكون في محل رفع على الإبتداء والخبر، وقوله تعالى :﴿كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم﴾ وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى :﴿وا شديد العقاب﴾ فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.
"ولما أصاب رسول الله ﷺ قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواماً أغماراً أي : جهالاً جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس" نزل.
﴿قل﴾ يا محمد ﴿للذين كفروا ستغلبون﴾ في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم ﴿وتحشرون﴾ في الآخرة ﴿إلى جهنم وبئس المهاد﴾ أي : الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخباراً بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم ﷺ "إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم" وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.


الصفحة التالية
Icon